أدمنت “الهكر” فدمرني وجعلني أستبيح ما حرم الله

قصتي ربَّما تكون غربية بعض الشيء، ولكن في نظري أنها ابتلاء شديد، ويكاد يخنقني، فعذاب الضمير وخَوْفي من الله يجعلني لا أنام الليل، ودائمًا مشتَّت التفكير فيما آلتْ إليه حياتي.

قصتي بدأتْ في عالَم الإنترنت، وكنتُ في سِن المراهقة، تعلَّمْتُ الإنترنت، وكانتْ البداية ماسنجر، ومنتديات، ومواقع، وأصدقاء، وبنات، وغيرها، ولكن سرعان ما تتطوَّر حالي، وقد عرَض عليَّ أحد أصدقائي تعلُّم الهكر والقرصنة والاختراق، وأخَذْنا دورة في هذا المجال مِنْ هكر سعودي محترف، مقابل مبلغ منَ المال.

ومع وُجُود الهواية أبدعْتُ في هذا المجال، فكنتُ في بداية هذا الطريق أُحارِب أعداء الله، من خلال السَّيْطرة على الأجهزة والمواقع، وكنتُ أخدم ديني، رغم بُعدي عن الله في ذلك الوقت، ولكن انقلَبَ الأمرُ، وبدأْتُ أستهدف أجهزة – للأسف – أناسٍ عرب ومسلمين، وأصبحتُ أتلَصَّص على خُصُوصياتهم، وسحْبها، واستبَحْتُ أعراضهم خفية، وسرقتُ إيميلاتهم، ووصل بي الأمر إلى تَهْدِيدهم بما كُنْت أملك من صورٍ وفيديوهات، بما نسميهم في عالم الهكر اللعين بـ”ضحايا”.

دمَّرْتُ العديد من المواقع العربية والإسلامية التي لا تؤذيني أصلاً، ولكن أصبح هذا شيئًا مثل الإدمان في دمي؛ يجب أن أُدَمِّر، يَجِب أن أسرق، يَجِب أن أستبيح كل ما أستطيع الوُصُول إليه، وكنتُ أعيد بعض هذه المواقع وبياناتها مقابل المال والهدايا، بل وَصَل بي الأمرُ إلى تدمير بعض المواقع الحكومية واختراقها، وصدِّقوني كنتُ أفعل هذا مِنْ باب التهكُّم والهواية.

دخلْتُ عالم الابتزاز، أقولها وأنا خجلان، ولن أدْخُل في تفاصيل؛ لأنَّها مُؤلمة، وأكره نفسي حين أذكُر تلك اللحظات اللعينة، وما زالتْ تلك الكلمة – التي سَمِعْتُها من فتاة كانتْ ضحيةً لطيشي، قالتْ لي: حسبي الله فيك – أذكُرها تتردد في منامي، في صحوتي، ما زالت أمام عيني!

وبعد الابتزاز، أصبحَتْ يدي قذرة، يُدفع لي فأدمر وأخترق وأَسْرق، وأجلب كل ما يريده مَن يدفع لي، أصبحْتُ بحق (هكر) مأجورًا، رغم أن وضْع أهلي المادي – الحمد الله – يَكْفِينِي، ولا أحتاج هذا المال، ولكن هو الطيْش والعبَث والغرور.

أما الآن فأنا أعيش في عذابٍ متواصلٍ، عذابٍ شديدٍ، لا أنام نومة هنية، ولا أستطيع أن أعيشَ مرتاح البال مثل باقي البشر، أحاول أن أبْتَعِد عن هذا المجال، ولكنَّه في دمي مثل الإدمان، ولكن ربما أشد منَ إدمان المخدِّرات؛ لأن المُدمِن يعاقَب ويعالَج، أما أنا فمَنْ لي غير الله؟! ماذا أفعل؟ لِمَنْ أَتَوَجَّه ليساعدني؟ بربكم في أي الطرُق أسير؟

أصبحْتُ إنسانًا متزوجًا، وعندي بيتٌ وعمل، وبإذن الله أولاد، وما زلْتُ أبْحَثُ عنْ راحةٍ أنشدها، وما زلت أمارس طقوس الهكر، رغم أني أريد أن أتركها، ولكن بلا جدوى، بربكم ليس لي مرشد غيركم بعد الله، فالأصدقاء هَمّهم الأكْبَر ليس راحتي، ولكن إرضاء مَصَالحهم؛ فمنهم مَن يُريد فيزا كارت مسروقة، ومنهم مَن يريد تدمير موقع، ومنهم مَن يريد اختراق إيميل صديقته… إلخ.

سئمْتُ تلك الصداقة، والإخوة أنا أكبرهم، والأب رَحَل إلى جِوار ربه، وزَوْجَتي لا أراها كما أرى جهازي المحمول.

أعلم أني أظلمها، ولكن أظلم نفسي قبلها، ولا أستطيع أن أتخلَّصَ مما أنا فيه، صدِّقوني توجَد عندي الإرادة، والله المستعان.

الجواب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبه ومن والاه، أما بعدُ:

فإنا لله وإنا إليه راجعون، على ما آل إليه حالُ بعض المسلمين، من الاعتداء على حقوق الآخرين وأموالهم، وتتبع عوراتهم، وخرق خصوصياتهم وأسرارهم، وهتك حرماتهم، والتجسس على معلوماتهم وبياناتهم، ثم ابتزازهم رجالاً ونساءً، وكل هذا اعتداء محض، وظلم.

والشريعة الإسلامية طافحة بالحثِّ على حفظ حقوق الآخرين وصيانتها؛ قال تعالى: ﴿ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58]، ونهت الشريعة عن الاطِّلاع على أسرار الناس، وهتْك حرماتهم، والتجسُّس عليهم؛ فقال الله تعالى: ﴿ وَلا تَجَسَّسُوا ﴾، وفي الحديث قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا))؛ متفق عليه، وقال: ((إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم))؛ رواه أبو داود، قال – صلى الله عليه وسلم -: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه))؛ رواه مسلم، وهذا الحديث مما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يخطب به في المجامع العظيمة؛ كحجة الوداع يوم النحر، ويوم عرفة، ويوم الثاني من أيام التشريق، وقال: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهْركم هذا، في بلدكم هذا))؛ متفق عليه، وروى أبو داود: أن بعض الصحابة كانوا يسيرون مع النبي – صلى الله عليه وسلم – فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه، فأخذها ففزع، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا)).

وروى أحمد وأبو داود عن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر من آمَنَ بلسانه، ولَم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته))، بل إن الله توَعَّد بالعذاب الأليم في الدُّنيا والآخرة لمن نقل كلامًا سيئًا عن المسلمين، أو أشاعه بينهم، فكيف بمن فعل ما فعلتَ؟! قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النور: 19].

هذا؛ وشأن المسلم دائمًا أن يرحم أخاه المسلم، ويعطف عليه ويستره، ولا يتسبب في إيصال الأذى إليه بِوَجْه من الوجوه، من قول أو فعل بغير حق؛ ففي الصحيحَيْن، عن النعمان بن بشير، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسهر))، وفي رواية عند مسلم: ((المؤمنون كرجلٍ واحد، إن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)).

وفيهما عن أبي موسى، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا)).

وروى أبو داود من حديث أبي هريرة، عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن، يكفُّ عنه ضيعته، ويحوطه من ورائه))، وقال: ((المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده))؛ رواه البخاري وسلم.

واسمح لي أن أكون صادقًا صريحًا معك، فالمستشار مؤتَمن؛ كما صحَّ عن الصادق المصدوق – صلَّى الله عليه وسلَّم.

فأنت – إلاَّ أن يشاء الله شيئًا – لن تشعر بالراحة التي تنشُدها، ولن تهدأ نفسك وتكف عن اللوم، ولن تشعر ببرد الضمير، ولن يسكت خوفك، ولن ينشرح صدرك وتقرَّ عينك بنوم، ولن يجمع الله شملك من الشتات، بل لن تحيَا حياة نافعة – إلا بالتوبة الصادقة، والاستجابة لله ورسوله ظاهرًا وباطنًا، فما تشعر به هو بعض عذاب الدنيا، فكيف إذا اجتمعت عليك واكتملت؟!

فمِن قدَر الله الكوني أن الجزاء من جنس العمل؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5]، وقال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]، وقال تعالى في المنافقين: ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [التوبة: 67].

فجازاهم على نسيانهم له أن نسيهم، فلم يذكرهم بالهدى والرحمة، وأنساهم أنفسهم؛ فلم يطلبوا كمالها بالعلم النافع والعمل الصالح؛ عقوبة لنسيانهم له، وأخبر – صلَّى الله عليه وسلَّم – أن مَن سمَّع سمَّع الله به، ومَن راءَى راءَى الله به، ومَن شاقَّ شقَّ الله عليه، فمَن فضح مسلمًا فضحه الله، ومَن هتَك عرض مسلمة هتَك الله عرض نسائه؛ عقابًا وعذابًا له، وابتلاءً لأهله إن كُنَّ أتقياء، ويُرفَع لكلِّ غادرٍ لواء عند استه يوم القيامة بقدر غدره، أمَّا المؤمنون فقد قال – تعالى – في حقهم: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17]، وأخبر – صلَّى الله عليه وسلَّم – أن: ((مَن ستر مسلمًا ستره الله)).

ولتعلم أن من عدل الله وحكمته بعباده أنه لا يغلق باب التوبة في وجوههم، بل فتح لهم الباب، وبيَّن لهم الطريق، وجعل لهم نورًا يفرقون به بين الحق والباطل، وأقام عليهم الحجة، فإن لم يستجيبوا ويسلكوا الطريق عاقَبَهم وحرَمَهم التوفيق لسلوك الصراط المستقيم، وقلب قلوبهم، وحال بينهم وبين الإيمان، فإنهم الذين جنوا على أنفسهم؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24]، وقال: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110].

قال الأستاذ سيد قطب في ظلاله:

“إن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إنما يدعوهم إلى ما يحييهم… إنها دعوة إلى الحياة بكل صور الحياة، وبكل معاني الحياة.

إنه يدعوهم إلى عقيدةٍ تُحيِي القلوب والعقول، وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة، ومن ضغط الوهم والأسطورة، ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة والحتميات القاهرة، ومن العبودية لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء.

ويدعوهم إلى شريعة من عند الله؛ تُعلِن تحرر (الإنسان) وتكريمه بصدورها عن الله وحده، ووقوف البشر كلهم صفًّا متساوين في مواجهتها، لا يتحكَّم فرد في شعب، ولا طبقة في أمَّة، ولا جنس في جنس، ولا قوم في قوم، ولكنهم ينطلقون كلهم أحرارًا متساوين في ظل شريعة صاحبها الله رب العباد.

ويدعوهم إلى منهج للحياة، ومنهج للفكر، ومنهج للتصوُّر؛ يطلقهم من كلِّ قيد إلا ضوابط الفطرة، المتمثِّلة في الضوابط التي وضعها خالق الإنسان، العليم بما خلق، هذه الضوابط التي تصون الطاقة البانية من التبدُّد، ولا تكبت هذه الطاقة ولا تحطمها ولا تكفها عن النشاط الإيجابي البناء.

ويدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم، والثقة بدينهم وبربهم، والانطلاق في (الأرض) كلها لتحرير (الإنسان) بجملته، وإخراجه من عبودية العباد إلى عبودية الله وحده، وتحقيق إنسانيته العليا التي وهبَها له الله، فاستلبها منه الطغاة.

ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله؛ لتقرير ألوهية الله – سبحانه – في الأرض وفي حياة الناس، وتحطيم ألوهية العبيد المدَّعاة، ومطاردة هؤلاء المعتدين على ألوهية الله – سبحانه – وحاكميَّته وسلطانه، حتى يفيئوا إلى حاكميَّة الله وحده، وعندئذ يكون الدين كله لله، حتى إذا أصابهم الموت في هذا الجهاد كان لهم في الشهادة حياة.

ذلك مجمل ما يدعوهم إليه الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – وهو دعوة إلى الحياة بكل معاني الحياة.

إن هذا الدين منهج حياة كاملة، لا مجرَّد عقيدة مستسرة، منهج واقعي تنمو الحياة في ظلِّه وتترقَّى، ومن ثَمَّ هو دعوة إلى الحياة في كلِّ صورها وأشكالها، وفي كلِّ مجالاتها ودلالاتها، والتعبير القرآني يُجمِل هذا كله في كلمات قليلة موحية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24].

استجيبوا له طائعين مختارين، وإن كان الله – سبحانه – قادرًا على قهركم على الهدى لو أراد: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ [الأنفال: 24].

ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة: ﴿ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ [الأنفال: 24] فيفصل بينه وبين قلبه، ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه، ويصرفه كيف شاء، ويقلبه كما يريد، وصاحبه لا يملك منه شيئًا، وهو قلبه الذي بين جنبيه!

إنها صورة رهيبة حقًّا، يتمثَّلها القلب في النص القرآني، ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب، ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس!

إنها صورة تستوجِب اليقظة الدائمة، والحذر الدائم، والاحتياط الدائم، اليقظة لخلجات القلب وخفَقَاته ولفتاته، والحذر من كل هاجسة فيه، وكل ميل؛ مخافة أن يكون انزلاقًا، والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس، والتعلق الدائم بالله – سبحانه – مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته، أو غفلة من غفلاته، أو دفعة من دفعاته.

ولقد كان رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو رسول الله المعصوم – يُكثِر من دعاء ربه: ((اللهم يا مقلب القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك))، فكيف بالناس، وهم غير مُرسَلين ولا معصومين؟!

إنها صورة تهزُّ القلب حقًّا، ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات، ناظرًا إلى قلبه الذي بين جنبيه، وهو في قبضة القاهر الجبار، وهو لا يملك منه شيئًا، وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير!

صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24].

ليقول لهم: إن الله قادر على أن يقهركم على الهدى – لو كان يريد – وعلى الاستجابة التي يدعوكم إليها هذه الدعوة، ولكنه – سبحانه – يكرمكم، فيدعوكم لتستجيبوا عن طواعية تنالون عليها الأجر، وعن إرادة تعلو بها إنسانيتكم وترتفع إلى مستوى الأمانة التي ناطَها الله بهذا الخلق المسمى بالإنسان، أمانة الهداية المختارة، وأمانة الخلافة الواعية، وأمانة الإرادة المتصرِّفة عن قصد ومعرفة.

﴿ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24] فقلوبكم بين يديه، وأنتم بعد ذلك محشورون إليه، فما لكم منه مفر، لا في دنيا ولا في آخرة، وهو مع هذا يدعوكم لتستجيبوا استجابة الحر المأجور، لا استجابة العبد المقهور”. اهـ.

أمَّا طريق الخروج ممَّا ابتليتَ به نفسك، فبالإتيان بالتوبة النصوح، وترك ما أنت فيه، وعدم الوثوق بالدنيا، والخوف الحقيقي من الله الذي يتبعه العمل، والفرار من المعصية إلى الله، فلا يُفارِق الخوف قلبك حتى تنجو، فالمسلم المستقيم هو مَن ذكر المعصية والتوعُّد عليها، وعدم الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح، هاجَ في قلبه من الخوف ما لا يملكه ولا يفارقه حتى ينجو.

وأمَّا إن كان مستقيمًا مع الله، فخوفه يكون مع جريان الأنفاس؛ لعلمه بأن الله مقلِّب القلوب، وما من قلب إلاَّ وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن – عز وجل – فإن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، وهذه هي الحياة الطيبة التي تبحث عنها، والتي ذكرها الله في كتابه؛ قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122].

وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ﴾ [الحديد: 28].

ولا تظنن التوبة والأوبة والرجوع عن الانحراف عسيرًا محالاً، وإنما عليك صدق اللجوء، وأخذ النفس بالشدة والحزم، بالصبر عن المعصية والعزم الأكيد على عدم العودة، والابتعاد عن كل ما من شأنه يجرك للهاوية، واشغل نفسك بأشياء مشروعة ومباحة تبعدك عن المحرمات، حتى لو تخلصتَ من جهاز الحاسوب، واستبدل رفقاء السوء وأصدقاء الضلالة بصحبة صالحة؛ فالانحراف في السلوك يُقوَّم بشرع الله، وبالتعوُّذ بالله منَ الشيطان ووساوسه، وتقوية العزيمة، والحرص على كل ما من شأنه تقوية الإيمان وتصحيح السلوك.

وهذه الطريقة هي التي سلكها النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – في علاج الانحراف السلوكي المتمكِّن في النفس البشرية، بحيث يبدو في ظاهر الحال أنه يستحيل العلاج؛ فقد روى أبو أُمامَة أن غلامًا شابًّا أتى رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال: يا رسول الله، ائذن لي في الزِّنا، فصاح الناس، فقالوا: مَهْ، فقال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أقِرُّوهُ، ادْنُ))، فدنا حتى جلس بين يدَي رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال له رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أتحبُّه لأمِّك؟))، قال: لا، قال: ((وكذلك الناس لا يحبُّونه لأمهاتهم، أتحبُّه لابنتك؟))، قال: لا، قال: ((وكذلك الناس لا يحبُّونه لبناتهم، أتحبُّه لأختك؟)) قال: لا، قال: ((وكذلك الناس لا يحبُّونه لأخواتهم، أتحبُّه لعمَّتك؟))، قال: لا، قال: ((وكذلك الناس لا يحبُّونه لعماتهم، أتحبُّه لخالتك؟))، قال: لا، قال: ((وكذلك الناس لا يحبُّونه لخالاتهم))، فوضع رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يده على صدره، وقال: ((اللهم كفِّر ذنبَه، وطهِّر قلبَه، وحصِّن فرجَه))؛ رواه أحمد والطَّبراني في “الكبير”.

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِينَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

وقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ومَن يستعفف يعفَّه الله))؛ أي: يطلب العفَّة، وهي الكفُّ عن الحرام، وقال: ((ومَن يتصبَّر يصبِّره الله، وما أُعطِي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر)).

وقال – صلَّى الله عليه وسلَّم – عندما غضب رجلٌ: ((إني لأعلم كلمةً لو قالها، لذهب عنه الذي يجِدُ)).

وقال لِمَن لم يستطعِ الزواج: ((فعليه بالصوم، فإنه له وِجَاءٌ)).

المصدر: شبكة الألوكة