الاختلاط والإثارة

الغريزة الجنسية مركب أصيل في الطبيعة الإنسانية، تحمل – في كثير من الأحيان– طابع القوة والعنف، لتبقى – بصورة دائمة- أداة حثٍّ للتناسل بهدف التكاثر من أجل البقاء؛ ولهذا تتحرك الغريزة في مواقف الاختلاط بين الجنسين ، وتتوقَّد بقدر درجة الإثارة وعمقها؛ لذا فإن لقرب المسافات بين الأشخاص دوراً فعالاً في نقل المشاعر والإيحاءات، بقصد أو بغير قصد، خاصة إذا أدركت المرأة أنها بذاتها كأنثى موضوع جنسي للرجل، يتأثر بكل ما يصدر عنها، ولو بصورة عفوية، وما تزال العلاقة بينهما قائمة على الفتنة والإغراء ما دام الدهر؛ ولذلك ما بعث الله تعالى امرأة بالرسالة، ولا جعلها قاضياً، ولا إماماً، ولا مؤذناً؛ كل ذلك لأنها محل فتنة وشهوة .

كما أن ضبط النفس عند الاختلاط بالجنس الآخر في غاية الصعوبة؛ لمخالفته للفطرة التي جُبلت عليها الطبيعة البشرية، فإنَّ السعي لكسب إعجاب الطرف الآخر أمر فطري، خاصة من الأنثى، فإنها على الدوام ظامئة لتكون محور اهتمام الرجل، ويصعب عليها امتلاك هواها أمام رجل ترضاه، وما أن يجتمع رجال ونساء في مكان واحد إلا صدرت بينهم إشارات وحركات توحي بالجنس، خاصة من النساء، حتى إن ابن حزم – رحمه الله- يُعبِّر بقوة وصراحة عن هذه الحقيقة في العلاقة بين الجنسين فيقول: “إني ما رأيت قطُّ امرأة في مكان تحسُّ أن رجلاً يراها، أو يسمع حسَّها، إلا وأحدثت حركة فاضلة كانت عنها بمعزل، وأتت بكلام زائد كانت عنه في غنْية، مخالفيْن لكلامها وحركاتها قبل ذلك، ورأيت التَّهمُّم لمخارج لفظها، وهيئة تقلبها لائحاً فيها ظاهراً عليها لا خفاء فيه، والرجال كذلك إذا أحسُّوا بالنساء، وأما إظهار الزينة وترتيب المشي، وإيقاع المزح عند خطور المرأة بالرجل، واجتياز الرجل بالمرأة فهذا أشهر من الشمس في كل مكان”، فدلَّ كلامه على أنه سلوك قاهر يصعب التفلُّت منه.

وهذه المشاعر الغريزية عند الجنسين لا تحتاج – في كثير من الأحيان – إلى التواصل اللغوي؛ فإن التجاذب بين الرجال والنساء، ووقع الحب بينهما لا يفتقر إلى لغة للتفاهم؛ فإن الحب – بما يحمله من العواطف الوجدانية – كثيراً ما يتخطى عقبات اللغة والرموز، ويتجاوز السدود والحجب، فالاتصال البشري لا يكون لفظياً دائماً، بل إن حجماً كبيراً من الاتصال البشري يتم بغير ألفاظ؛ بل إن الصمت هو أحد المكونات المختلفة للاتصال، وهو من ثمَّ يمكن أن يكون وسيلة للتعبير عن شيء ما، كما يكون أداة لنقل معلومات أو أخبار يريد الشخص الصامت نقلها إلى الآخرين، فالصمت والكلام هما معاً وسيلتان من وسائل الاتصال.

وعلى الرغم من أن الرجل والمرأة يستطيع كل منهما أن يفهم الإشارات غير اللغوية الصادرة عن الآخرين؛ فإن المرأة أكثر قدرة على قراءة تلك الإشارات غير اللغوية، وبخاصة الإشارات الصادرة عن الوجه؛ ولهذا فإنَّ كفَّ هذه المشاعر المثيرة بين الجنسين، أو التخفيف منها عند الاضطرار لمواقف الاختلاط لا يتحقق إلا بأمرين، هما: غضُّ البصر، وقطع الكلام، وبهما معاً تسكن النفس، وتخفُّ الإثارة؛ فغض البصر يكفُّ التواصل الجسدي، وقطع الكلام يكفُّ التواصل اللغوي، وبدونهما يصعب أو يستحيل منع الإثارة الغريزية في مواقف الاختلاط بين الجنسين، ولعل في خبر الإفك، وما حصل فيه من الأزمة الاجتماعية ما يوضح المقصود، وذلك حين اضطرت عائشة وصفوان بن المعطل – رضي الله عنهما- للاختلاط والخلوة في موقف اضطر كل منهما إليه دون اختيار، فكان الحل الذي اختاراه هو غض البصر، وقطع الكلام إلا عن ضرورة.

ومن أعجب ما جاءت به الشريعة الإسلامية في الأمر بستر النساء لكف المثيرات والهواجس الجنسية غير المرغوب فيها ما ورد من اختلاف في أحكام الجنائز بين الرجال والنساء، فالمرأة يُزاد في كفنها عن الرجل ثوبان، ويُضع على نعشها قبَّة، ويقوم الإمام عند وسطها لسترها، وإذا اجتمعت عدة جنائز وتنوعت أجناسها: قُدِّم الموتى من الرجال مما يلي الإمام، ثم الصبيان، ثم النساء، وحتى الخنثى الميتة تكون أقرب للإمام من المرأة، وعند دفنها يُستر قبرها بساتر، فكل هذه الإجراءات قُصد منها ستر النساء، ودفع الخواطر الرديئة عن نفوس الرجال من غير المحارم، بل إن المحارم أنفسهم إذا وقع في نفس أحدهم أنه إذا مسَّ المرأة من محارمه أو نظر إليها أنه يشتهي، أو أنه إذا خلا بها لا يأمن نفسه: فإن الواجب عليه غض البصر عنها، والامتناع عن مسِّها والخلوة بها.

إذا كان هذا هو اعتناء الشريعة الإسلامية بكفِّ المثيرات الجنسية في المواقف التي تندر فيها الإثارة كالتعامل مع جسد المرأة الميتة، أو الاحتكاك بالمرأة المحرم، فكيف ترى الشريعة تعتني بمن يُظن بهم الشهوة، في مواقف الاختلاط بين الأجانب من الجنسين؟

وقد أثبتت بعض الدراسات الميدانية أن: العلاقة بالجنس الآخر أهم العلاقات الاجتماعية التي تشغل الفتاة في هذه المرحلة من حياتها، واعترف جمعٌ من الطلاب والطالبات أنهم يرغبون في جذب الجنس الآخر، ومما يدل أيضاً على صحة هذه النظرة النفسية للعلاقة بين الجنسين، ويؤكِّد هذا المعنى قول ابن مسعود: “إنما النساء عورة، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها من بأس، فيستشرفها الشيطان فيقول: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبتيه…”، ولا يُفهم من هذا أن كل من وقعت في نفسها هذه الهواجس أنها لا بد أن تقع في الفاحشة؛ فإن الوقوع في المحظور قضية، وحصول المثيرات الداعية للفاحشة، والحاثـَّة عليها قضية أخرى؛ لذا جاء في الحديث : “… ويصدِّق ذلك الفرج أو يكذبه “.

المصدر: موقع الدكتور عدنان باحارث للتربية الإسلامية