نفسي غاصت في الملذات وأريد الإستقامة

السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته.
بدايةً أود أن أشكركم على جهودكم الطيبة في هذا الموقع المفيد.
وأرجوُ الله أن يكون في ميزان حسناتكم.
أنا سارة عمري 13 عامًا، مُشكلتي أني أود التوبة، وأريد الرجوع إلى الله، وأن أستشعر عظمته وحبه، إيماني متزعزعٌ، كنت أعاني من وساوس قهرية في الذات الإلهية -أستغفر الله العظيم- ولكنها -الحمد لله- لم تعد تراودني، عندما قرأت قول رسول الله -عليه الصلاة والسلام- مع الصحابة، وقال لهم: إنه صريح الإيمان، شعرت بالراحة؛ لأنني لستُ محاسبةً على هذه الوساوس، وانتهيت منها.
كنت أفعل المعاصي -والحمد لله- تبت منها، وأصبحت أواظب على الصلاة، والصيام، والواجبات، والفروض، وأحيانًا قليلة السنن، وعندما عزمت على التوبة إلى الله كنت أشعر بالحماس والسعادة، وأصبحت أقرأ القرءان، وأواظب عليه، وأفعل طاعات أخرى، ولكن بدأت أشعر بأن الله ليس راضٍ عني، أشعر أنه لن يرضى عني، رغم أنني أعلم بأنه -سبحانه- ذو رحمة ومغفرة، ولكن من قبل كنت أتوب وأرجع مرةً أخرى للمعاصي، أتوب وأرجع، والآن تبت منها -ولله الحمد- ولم أعد لها، أصبحت أواظب على الفروض، ولكنني لا أستشعر لذتها، لا أخشع في الصلاة، وعندما أستمع للقرآن أجاهد نفسي على البكاء والخشية من الله، ولكنها لا تفعل!
يأتيني شعور بأن الله غاضبٌ عليّ ولن يغفر لي، أود فعلًا أن أكون قريبةً من الله، أن أستشعر لذة قربه وأنس محبته، أواظب على الأعمال الصالحة في البداية، ولكن أبدأ فجأةً بالخمول وأنقص شيئًا فشيئًا من هذه الأعمال.
آسفة على هذه الكلمات المبعثرة، ربما لم توصل ما بداخلي جيدًا!
سؤالي باختصار:
– أفعل الطاعات ولكن لا أستشعر لذتها في قلبي، فما الحل؟
– لا يؤنبني ضميري كثيرًا إن قصرت في حق الله، وهذا يجعلني أشعر بالضيق.
– أشعر بأن الله لن يرضى عني ويغفر لي؛ لأنني أتوب وأعود للمعاصي، أعاهد الله على فعل الطاعات، ولكنني أبدأ بالخمول والكسل بعد فترة وجيزة، فماذا أفعل؟
– نفسي غاصت بين ملذات الدنيا، رغم علمها بالأخرى، ورغم محاولتها أن تجاهد هذه المغريات، ولكنها ضعيفةٌ وشعورها بأن الله لن يرضى عنها يزيدها ضعفًا وخمولًا، فماذا أفعل؟
أود أنني لم أطل كثيرًا، وجزاكم الله خيرًا على ما تبذلونه من جهد وخير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المستشار: د.علي الدقيشي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
ابنتي الكريمة: مرحبًا وأهلًا بكِ في موقعك مستشارك الخاص.
وبخصوص سؤالك أجيبك بما يأتي:
أولًا: أشكركِ على تواصلكِ معنا ومكاشفتك بشفافية لما يدور بخلجات صدرك.
ثانيًا: أبشركِ –ابنتي الكريمة– بأنكِ على خير، وأن الله يحبك ويريد لك الخير؛ حيث وفقك برجوعك عن المخالفات وثباتك على ذلك، وحرصكِ على الاجتهاد في الطاعة ودوام اللذة فيها، وللتوبة النصوح التي أمر الله –تعالى– عبادة المؤمنين بأن يتحلوا بها، يقول تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. [ التحريم 8]
ومن الدلائل على ذلك:
1- توفيق الله لكِ بالتوبة الصادقة والعون عليها.
2- اجتهادكِ في الأعمال الصالحة.
3- حصولكِ على بركات الأعمال الصالحة والشعور بلذة العبادة، وهذا من علامات قبولها ورضا الله عنها، وعن صاحبها -بإذن الله- لذا فبركات توبتكِ وثباتكِ عليها ستنالينها –بإذن الله– منها:
1- الفلاح والفوز بما يسعدكِ في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
2- المغفرة للذنوب الماضية، ودخول الجنة، يقول تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا}.
3- قبول التوبة وتبديل السئيات إلى حسنات، يقول تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.
4- نيل حبّ الله تعالى وفرحه بالتائبين، يقول الرسول الكريم: (للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِه المؤمنِ من رجلٍ في أرضِ دويةٍ مهلكةٍ معه راحلتُه عليها طعامُه وشرابُه فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطشُ، ثم قال: أرجعُ إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموتَ فوضع رأسَه على ساعدِه ليموتَ فاستيقظ وعنده راحلتُه وعليها زادُه طعامُه وشرابُه، فاللهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ العبدِ المؤمنِ من هذا براحلتِه وزادِه. وفي روايةٍ: من رجلٍ بداويةٍ من الأرضِ. وفي روايةٍ: للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِه المؤمن) صحيح مسلم.
ثالثًا: انتبهي لهذه الحقيقة، وهي قولهم: (دوام الحال من المُحَال) فالإنسان لا يثبت على حالٍ واحدة، بل متقلب الأحوال، ومن صور هذا أن يشعر الإنسان في بداية استقامته باللذة في الإقبال على الطاعة والرغبة الشديدة والنشاط في الاجتهاد في الأعمال الصالحة والإكثار منها بسبب حلاوة الإيمان التي خالطت بشاشة قلبه، ويستمر الإنسان على ذلك مدةً من الزمن، ثم يعتريه فتور ويقلّ ذلك النشاط والاجتهاد في الأعمال، يقول الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم- : (لكلِّ عاملٍ شِرَّةٌ -النشاط والرغبة في الطاعة- ولكلِّ شرَّةٍ فترةٌ -الفتور- فمن كانت فترتُه إلى سنَّتي فقد أفلح) رواه الطبراني. وفي رواية: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك) رواه البيهقي.
رابعًا: الفتور بعد النشاط في العبادة وضعٌ طبيعيّ قدّره االله تعالى لحكم جليلة، منها:
1- للتشويق للطاعة من جديد، حتى إذا أقبل عليها الإنسان كان إقباله برغبة وشوق.
2- سلامة الإنسان من العُجب والكبر، حتى يستيقن أن اجتهاده في العبادة ونشاطه فيها بتوفيق الله لا بحوله وقوته.
3- لبيان صدق الصادق من المؤمنين؛ فالمؤمن إذا حصل له الفتور يسأل الله الثبات على الطاعة، ويخشى أن يُسلب الاستقامة فيخسر، وفي خوفه الخير الكثير للإنسان؛ فالفتور الذي يعود إلى الضعف من الازدياد في الأعمال الصالحة ما لم يصل إلى التقصير في فعل الواجبات أو ترك المحرمات فهذا الفتور وضعٌ طبيعيٌّ لا شيء فيه.
خامسًا: ومن ذلك أيضًا الشعور باللذة أثناء العبادة، والقيام بالأعمال الصالحة، ثم ضعف هذا الشعور؛ فهذا وضعٌ طبيعيٌ ناتجٌ عن زيادة الإيمان ونقصانه، فكلّما زاد الإيمان زاد الشعور بلذة العبادة والفرح بها، والشغف بالإقبال عليها، وكلما نقص الإيمان نقص هذا الشعور، ومصداق ذلك قول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- لحنظلة –رضي الله عنه– حينما جاءه حنظلة –رضي الله عنه- يقول: يا رسول الله حينما نكون في مجلسك نكون في حالٍ عظيمة من النشاط والفرح والرغبة في الخير، وإذا رجعنا انشغلنا بالأولاد والنساء – أي: ضعفت الرغبة والنشاط – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَو تدومونَ على الحالِ الَّتي تقومونَ بِها من عندي لصافحَتكمُ الملائِكَةُ في مجالسِكُم، وفي طرقِكُم، وعلى فُرُشِكُم، ولَكِن يا حنظلةُ ساعةً وساعةً ساعةً وساعةً) رواه الترمذي.
ويقول عثمان –رضي الله عنه–: (لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم)، وجاء جماعة من أهل اليمن فأسلموا، فلما سمعوا القرآن تأثروا به فبكوا، فقال أبو بكر –رضي الله عنه-: (كنّا هكذا فقست القلوب).
سادسًا: أما الشعور الذي يتردد عليك بأن الله لن يغفر لك بسبب أنك كنتِ تتوبين ثم تعودين وكررت هذا مرات، فهذا -يا ابنتي الكريمة– وسواس من الشيطان الرجيم، بمجرد وروده على عقلك اطرديه على الفور بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وكرري آية الكرسي، فما كنت تعملينه من الذنب ثم تعقبين ذلك بالتوبة الصادقة، ثم تضعفين فتقعين في الذنب ثم تندمين وتتوبين بصدق وهكذا، فهذا الوضع هو المطلوب من المؤمن، والله يعظم هذا الإقبال من عباده التائبين، ويغفر لهم.
ولو تكرر منهم ذلك الكثير طالما أنهم صادقون في توبتهم في كل مرة، جاء في الحديث القدسي الذي يرويه الرسول –صلى الله عليه وسلم– عن ربه –عز وجل– قال: (أذنب عبدٌ ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي ربّ اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي فعلم أن له ربًا يغفر بالذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي فليعمل ما يشاء) متفق على صحته.
سابعًا: ولدوام الرغبة في الأعمال الصالحة والاجتهاد في دفع التقصير فيها والشعور بلذة العبادة ، عليك بالقيام بما يأتي:
1 – الاهتمام بالمحافظة على الإيمان، والحرص على زيادته؛ حيث إنه هو الأساس الأعظم للثبات على الاستقامة، فعلى قدر منسوب الإيمان في القلب يكون مستوى الاستقامة على الطاعة والعبادة لله والرغبة والاجتهاد في ذلك، فلنحرص على المحافظة على أصل الإيمان بفعل الواجبات وترك المحرمات، والاجتهاد في زيادته عن طريق الإكثار من الأعمال الصالحة بكافة أنواعها، صلاة، وقراءة قرآن، بر الوالدين، صلة الرحم، الصدقة، إكرام الضيف، مساعدة المحتاجين، فإن الإيمان يزيد بالأعمال الصالحة.
2 – الإكثار من ذكر الله تعالى بالتسبيح والتحميد والاستغفار، والصلاة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن أعظم ما يبقي الشعور لذة العبادات، ويزيدهها الإكثار من ذكر الله بالآلاف إن استطعت فسيأتيك خير كثير.
3 – المحافظة على أذكار الصباح والمساء، وأذكار المناسبات المختلفة في أوقاتها؛ مما يجلب الشعور باللذة، فعليك بحفظ هذه الأذكار وتفعيلها في أوقاتها، فاقتني كتيب (حصن المسلم) واحفظي كل يوم في كل مناسبة ذكرًا من أذكارها.
4 – تعرفي على أقرب المراكز الإسلامية في مدينتك، وترددي عليها في أقرب وقت، واحرصي على حضور صلاة الجمعة، ودروس العلم، والمحاضرات والنشاطات النسائية.
5 – اتخذي رفقةً صالحةً من المسجد، وتواصي معهنّ على المحافظة على الصلاة، وقراءة القرآن، وذكر الله، وحضور مجالس العلم.
6 – ابتعدي عن الصديقات غير المستقيمات؛ لأن الصاحب ساحب، أي يسحب صاحبه إلى طباعه وأخلاقه وسلوكه.
وأخيرًا: أكثري من الدعاء ومناجاة الله تعالى، ولا سيما في أوقات الإجابة بأن يشرح صدرك للاستقامة على الطاعة ويثبتك عليها، ويرغبك في الأعمال الصالحة، ويوفقك للازدياد باستمرار، وأن يفيض عليك دائمًا بالشعور بلذة الطاعة وحلاوة الإيمان.
أسأل الله أن يثبتك على الاستقامة على طاعته، وأن يفتح على قلبك بحبه سبحانه، وحب الأعمال التي تقربك إليه وإلى حبه، ويشرح صدرك للخير دائمًا.
والله الموفق.
المصدر : موقع راف