قصة امرأة تائبة
الدكتور محمد راتب النابلسي
قصة امرأة تائبة إلى الله .. أكتبها كي تكونَ فيها عبرةً لأخواتي المسلمات .
إنني إنسانة مَنَّ الله سبحانه عليها بتوبةٍ نصوحٍ ، وإليكم قِصَّتي علَّها تفيدكم ..
لقد كنت حتى زمن قريب مع من أخذهم الشيطان إلى أغوار المعاصي ، فزَيَّن في قلبي حبَّ الدنيا واستهوتني ملَّذاتُها فأغواني شرَّ غويَّة .
وكنتُ كمن يتخبطه الشيطانُ من المَسِّ ، فلا أَدَعُ إثماً إلا فعلتُه ، ولا أتجنَّبُ معصيةً إلا ارتكبْتُها ، وكلُّ ذلك في سبيلِ إِشباع غُروري ونَهَمي في تحقيقِ رغباتي الشيطانيةِ ، والتي كلَّما حقَّقْتُ منها شيئاً قالتْ لي نفسي هل من مزيد ؟ وسلكتُ سبيلاً متفَرِعاً ليس له من نهاية ، كلما اعتقدْتُ أنني نِلْتُ مُرادي في أمر أجدني سلكْتُ فرعاً آخرَ من فروع الشيطانِ الشائكة بحبائله فأغْرَقُ من جديد في كيدِ ذلك اللعينِ .
وأُشهِدُ اللهَ .. أنني عندما أكون في أشدِ نشوتي في تحقيقِ ما أريد أتوَهَّمُ التسليةَ والسرورَ ، كان خوفٌ دفينٌ يعتريني يُذَكِّرني بالله !! فيُبَدِّدُ هِمَّتي ويكْبِتُها لِشِدَّة خوفي مما سأُلاقيه من مصيرٍ مُرْعِبٍ بسبب ما أرتكبُ من المعاصي والفسوقِ ، ولم أكن يوماً في حياتي أُحِسُّ بالسعادة المنشودةِ والتي لم أُوفّر سبيلاً توصلني إليها إلا اتَّبعْته ، ولكنْ شتَّانَ بين ما في داخلي وبين ما أُوْهَمُ به مِن حولي من سعادةٍ زائفةٍ ، ولكنَّه العنادُ والتعوُّدَ على منهجٍ لا أستطيعُ منه فَكاكاً ، فأُبعِدُ تلك المخاوفَ من مصيرٍ سيئ أكيدٍ وأنحّيها جانباً ، وأُلهي نفسي بمُجونٍ من نوعٍ جديد حتى ترغَبَه لأنَّها ملَّت كلَّ شيء ، كي تنسى مخاوفَها واحتقارَها لذاتِها .
وكنتُ في الوقت ذاته أُؤيِّدُ وأَغْبِط كلَّ فتاةٍ أو امرأة متديّنةٍ ومتحجِّبةٍ ، وأَشعر بأن قلبي يئِنُّ ببكاءٍ صامتٍ مُحرِقٍ عميق ، وبحسرةٍ تعتصرُ كياني ، وباحتقارٍ شديد لجميع سلوكي ولكن لماذا ؟! هل أريد خَلاصاً ؟! وأنَّى لي هذا ؟! وكيف العدولُ وقد تعوَّدتْ نفسي الحريةَ المطلَقةَ ، والانفلاتَ من القيودِ الاجتماعية والعُرْفية ، والاستهتارَ بالواجباتِ الدينيةِ ، فكنتُ إذا سمعت نداءً للصلاة أو تلاوة من القرآن الكريم أو حديثاً دينياً ، كنت أُصِمُّ أُذنَيَّ وأحاول إبطالَ المنشأِ حتى لا ينتابَني ذلك الخوفُ من مصيري مع اللهِ واحتقاري لمساوئي ، فألجأَ من جديدٍ إلى إلهاءِ نفسي بأيّ عملٍ يُشغِلُها عن هذا التفكيرِ ، فلا أدعُ شيئاً من تلك الأمورِ يتسرَّب إلى كياني فيهيّجَ تلك المشاعرَ التي تكاد تقْتُلُني ، وبقيتُ على هذا الحال سنواتٍ طويلةً ، وكان لي من الله عزَّ وجل على مدى تلك السنينَ هزَّاتٌ ونعراتٌ وتنبيهاتٌ ، فقد كان ربّي يحميني ويستُرني ويُنجيني في مواقفَ خطيرةٍ لا أستاهلُ رحمتَه فيها ، فأعلمُ في نفسي أن الله يُحبُّني ولا يريدُ فضيحتي ، وأنّه يدعوني إليه ولكنْ أنّا لي الاستجابة !! وأنا على هذه الحال من الفسوق .
وحبُّ الدنيا والموضةُ والملذَّاتُ على أشكالها قد أخذتْ مني كلَّ مأخذ وطوّقَتْني فشملتْ كلَّ حياتي ، واستحوذت على تفكيري حتى غدوتُ لا أستطيع التخلّيَ عن هذا الانفلات الذي أَعيشُه ، لا أعرف التقّيدَ بنظام.. نهاري ليلٌ ، وليلي نهارٌ .
وكم كنتُ أكره نومَ الناس في الليل لأنني أريدهم حولي ، أستأنسُ باللهوِ معهم حتى الصباحِ كي أَكْسرَ وحشةَ الليلِ بسلواهم ، وسكونَه بضجيجهم ، وظلامَه بصَخِبنا في ظلمات المعاصي ، وعلى الرُغْمَ من ذلك كنتُ عندما أرى الراقصين على حَلَبةِ المراقِصِ الليليةِ التي أدمَنْتُ السهرَ فيها أرى فيهم صوراً من عفاريتِ الليلِ – تتنطط – أمامي متراقصةً ، تتمايل بنشوةِ المسِ الشيطاني الذي أفقدَها صوابَها ، وجعل منهم أُضحوكَةً ومصدرَ استهزاءٍ لمن يراهم وهو متمتِّعٌ بنعمةِ العقل الواجدِ فيحَتقرُهم ويحتقرُ وجودَه بينهم ، وعندما أُشاركُهم مجونَهم بإلحاحٍ منهم كنتُ أرى نفسي شيطانةً في ثوبِ الإنسِ سخَّرَها وليُّها إبليسُ لإغوائهم ولزيادةِ جرعةِ النشوة فيهم ، فتستلبُ منهم إعجابَهم بمواهبِها وجمالِها بما يُرضي غرورَها الدنيء ، ويُشبع رغبتَها الشيطانيةَ باستئثارِ قلوبِهم وهيامهم واهتمامهم خالصاً لي ، فأُلهبُ مشاعرَهم بحركاتٍ راقصةٍ مركَّزة موحاةٍ من أستاذي إبليس اللعين .. ويحصُل مرادي في تحويلِ كلِ مَن حولي من الرجال عن صديقاتهم أو زوجاتِهم ، وبداخلي يتآكلني المقتُ من قِلَّة عقولهم التي سلَبتْها منهم كؤوسُ الخمرِ ، فأصبحوا مع كِبَر شأنهم في المجتمع أُلعوبةً في إصبع امرأة .
حتى زوجي الذي كان يتباهى بي أمامَ أُولئك الشياطينِ كنتُ أحتقرُه، أحتقرُ فيه استجابتَه لرغباتي وتطويعَ نفسه لأمري لشدة حبه لي، وأيضاً تحقيقاً لمآربه من أُولئك على حسابِ شرفِه ونَخْوَتِه ، إنَّه يجهلُ وبكل تأكيد الحبَّ الحقيقيَّ ، يجهلُ أنَّ المرأةَ عندما تحبُّ تطوِّع نفْسَها لمن تُحبّ ، وعندما تكره تطوِّع من يحبُها لأمرها ثم تسخَرُ منه وتحتَقرُه، ولا يعلم زوجي مدى استصغاري له إذ جعل رجولتهِ رهنَ إشارتي ، ولم يعلم بأنني كأيِّ امرأة في الوجود لا تُحب في زوجِها إلا الرجولةَ الحقَّةَ والشهامةَ التي يَصونُها بها ويحميها من شرّ نفسِها ومن شرورِ الآخَرين ، لتشعرَ بالأمان والاستقرار ، وبما أن فاقَد الشيءِ لا يُعطيه ، فأنَّى له ذلك برجولةٍ ممزّقةٍ قد أذابها في كبريائي ووضعها تحت قدمي وسحقها تلبيةً لرغباتي وحُباً لي وكَسباً لقلبي ، فيُضحِّي بأعزِ ما يتمتَّعُ به الرجل (العقل والإرادة والشرف ) .. ألم يعلم بأنّ كيدهنّ عظيم ؟ وأنَّهُن حبائلُ الشيطان يحيط من خلالها بمن يريد إستذلالهم وإذلالهم، ويُسخِرُهُنَّ لإغوائهم حتى يكونوا من أَتباعه ، ثم يَخنِقُهم بتلك الحبال ببثّ البغضاءِ بينهم فيفرِّق بين من كانوا أحبَّةً ؟!! فلا عجبَ إذاً من طلاق رجلٍ كهذا امرأتَه ولا بدّ .. وقد كان .
وهكذا كنتُ على الدوامِ في تناقُضٍ ، في نفسي ومع حياتي بشكلٍ عام .. فأَعيشُ ضمن دائرةِ التوتُّر لا أَنعُم بشيء من حولي ولا أُحِسَّ طعماً لسعادةٍ بما يُحيط بي من أسباب الاشمئزاز والمَللِ .
وعِشتُ بعد الطلاق حياةً مليئةً بالمخاوفِ من الطامعين بي ، متمنيةً زوجاً أفضلَ يستطيعُ أن يحميَني ويُبدِّد قلقي ، ولكنْ أين هو ضمن هذه النوعية الموحَّدة في ذلك الصنف الذي اعتدتُ معرفتَهم بالموارثة ؟! لم أعُد أرى أمامي إلا رجالاً بلا رجولةٍ ، يُدير رؤوسَهم ويذهبُ عقولَهم خيالُ امرأةٍ .. امرأةٍ تُغلِّف حقيقتَها أقنعةُ التمويه من ماكياج وزينةٍ وأزياءَ، دون أي درايةٍ منهم عن مضمونها .. لا يُكلّفون أنفسَهم مشقَّةَ الخَوض إلى داخِلِها ، ولا النظرَ إلى ما تحت الجلدِ .. فيكْتَفونَ بتلك القشورِ التي سرعانَ ما تُبلى ، وما أسهلَ تغييرَها والانتقال إلى مثالٍ آخرَ يُرضيهم .
كانت لي في حياتي حسنةٌ ولله الحمدُ .. بالإضافة لحُبي الشديدِ لمساعدةِ الناسِ المحتاجين ، وحبِ الخير للجميع فقد ربّيتُ أولادي تربيةً حسنةً ، فقد اكتسبوا أخلاقاً حميدةً .. وكان أن سافروا إلى بلدٍ غَربيٍ لتحصيلِ شهادات دراسيةٍ ، فوفَّقهم اللهُ بملاقاةِ أُناسٍ من أهلِ العلمِ في دين الإسلام وصَحبوهم مُدَّةَ سنيِّ سفرِهم ، فتعلَّموا منهم أمورَ دينِهم على شكلٍ سليمٍ ، وتعرَّف ابني البِكر على فتاةٍ غربيةٍ تدرس الدينَ الإسلاميَ في المسجد الذي يتواجد فيه ، ووجد عندها ميلاً كبيراً إلى هذا الدينِ ، وإليه أيضاً ، وكانت على جانِب كبيرٍ من الأخلاق الحميدةِ ، فتزوَّج منها، وبعد أكثرَ من سنةٍ دخلتْ في دينِ الإسلام ، ومن ثمّ تحجَّبتْ ، ثم حجَّت إلى بيت اللهِ ، وكانت نِعْم الزوجةُ ونِعْم المرأةُ المسلمةُ .
وكان أن زُرتُهم ومكثْتُ عندهم شهوراً .. شاهدتُ خلالها العَجَبَ.. بَهَرني إسلامُها وكيفيّةُ طاعتِها لزوجها ودينُها وقوةُ إيمانِها ، الذي لم أتوصَّلْ ولا إلى ذرةٍ منه وأنا المسلمةُ الأصلُ !! وكم كنتُ أتحرَّجُ من الظهورِ معها في الأماكنِ العامةِ وعند المعارِفِ من تناقض مظهري مع ما أدَّعية من الإسلام ، فهي الغربيةُ الحديثةُ العهدِ بالإسلام متحجِّبةً وفي بلدها الغَربي ، وأنا المسلمةُ أصلاً تجدني سافرةً ، فلم أستطع المكوثَ طويلاً مع هذا التناقضِ المُحرِجِ ، فاختصرْتُ المدةَ ورجَعْتُ إلى بلدي تلفَحُني خَلجاتُ الخَجلِ من هذا الفارقِ بيننا ، وتركتُ قلبي الذي أحبَّها كلَّ الحُب وتعلَّقَ بها تركتُه عندها ، وتركْتُها رغم توسُّلاتِها وابني للبقاء معهم ، ولأنها لم تستطع البعد عني لشدةِ تعلُّقِها بي، وقد قدَّمَتْ لي من الإغراءات ما يجعل أية – حماة – تعدِل عن ترك مثل هذه – الكِنّة – ، وهذه الإنسانةِ النادرة ، ولكن أنَّا لي أنْ أستجيبَ وقد كانتْ تناديني أهوائي ويُصمّ أُذُنَي شَوقي إلى ممارسةِ ما أدمنَتْ نفسي عليه ، فقد أصبحْتُ أسيرةَ عاداتي المكتَسَبةِ من محيطٍ فاسدٍ لا أستطيعُ الخلاصَ منه ، ولا العيشَ على غيرِ مَنهَجِهِ .
ولكنَّ الحقَّ يُقال : كنتُ وأنا في الطائرةِ متبعْثرةَ الفِكْرِ المتَشَتِّتِ ، في صراعٍ أليمٍ بين ما تشدُّني إليه عاداتي ، وبين صُورةِ تلكَ الإنسانةِ الملاكِ ، التي تركَتْ دينَ ولباسَ وعاداتِ أهلِ بلدِها المتفلِّتِ من القِيمِ الأخلاقيةِ إلا ما ندر منهم والْتَحَقَتْ بدينِ وحِشمةِ وعِفّةِ الإسلامِ ، لماذا كلُّ هذا ؟! لأنّها درسَتْه على عِلمٍ ، وتفهُّمٍ لشريعتِه وأصولِ فِقهِهِ ، فأحبَّتْه عن اقتناعٍ ، وأخذَتْ كلماتُها عن الإسلام تَرِنُّ في أُذُني طيلةَ الطريقِ .. الإسلامُ جيِّدٌ جداً ، نظيفٌ وهادي ، ومُريحٌ ، ومنْصِفٌ ، وأمينٌ ، وأنَّها لم تشعُرْ بالأمانِ والاطمئنانِ إلا عندما دخَلتْ هذا الدينَ ، وتزوَّجَت ابني ، للهِ الحمدُ .
فأصبحْتُ في مقارنةٍ بيني وبينها ، أنا كشرقيةٍ مسلمةٍ وهي كغربيةٍ قد رضَعتِ الحريّةَ المسيَّبةَ من ثدي أُمِّها ، فتركَتْ كلَّ شيءٍ مقابلَ حُبِ الله ودينِه ، وكعادتي دائماً أهرُب من هكذا تفكير حتى لا يُحبَطَ نشاطي وحَيويَّتي وهِمَّتي العاليةُ في اكتسابِ الإعجابِ وتحصيلِ الألقابِ .. مرّة يقال لي : ذاتُ الشبابِ الدائمِ ، وبعدها مثلُ الطبقِ الصيني من أينما ترِنُّه يَرِن، وبتاع كُله ، وأجملُ من بنتِ العشرين ، وإلى آخر هذه الألقابِ .. فكيف أُفَرِّطُ بما تَعِبْتُ في تحصيله وقد أخذتْني العِزَّةُ بالإِثْمِ ، فإنني حيث ما حللْتُ أُديرُ رؤوس الشبابِ قبل الرجالِ ، والفتياتِ قبل النساءِ ، فلا أُريد أنْ أَخْسَرَ تفوُّقي الدائمَ وفي كل المناسباتِ وكافّة المجالات ، لا أَدَعُ فرصةً لأيٍّ من بنات جِنسي أن تُظهِرَ ذاتَها بواحدةٍ من تلك المناسباتِ ، كنتُ دائماً آكلُ الجوَّ كُلَّه – ألفتُ أنظارَ الكُل- فأجد الفتياتِ خَجلاتٍ .. رُغم جمالِهن .. أن يُبرِزْن أيةَ موهِبَةٍ لَديْهِن أثناءَ وجودي ، ولم أتْركْ مجالاً لأيةِ فتاةٍ أن تأخُذ حَظَّها من لَفت نظرِ أي مُعْجَب ، وكان ذلك لي وحدي .. وتعوَّدْتُ على أن أستأثر باهتمام كلِ مَن حولي ، من الشلّة وغيرِهم ، وبعد أن أخلوَ إلى نفسي أحسُّ بأنانييتي ، وبأنني آخذ زماني وزمَنَ غيري ، وأكثرُ ما كان يحثُّني على ذلك : لقبُ .. مثلُ : – الحَبْلاس – ، أحبْبتهُ وأحبْبتُ الحفاظَ عليه، مع علمي بأنني في نَظَر بنات جنسي – سَفَرجِل -.. كلُّ لُقمةٍ بغَصّةٍ .. !!
وغرِقْت في بحر الذِكرَيات ، أتذكَّرُ تلك الفتاةَ في ذلك الموقفِ وهي تبكي من شدّةِ غَيظها لسَلبي منها إعجابَ حبيبها بها ، وتلك التي تركَتْ السهرةَ من أوَّلها هروباً من وجودي، وهذه المرأةَ الجميلةَ الوجهِ التي تحاولُ تنفيذَ بعضِ حركاتي الراقصةِ فوقعَتْ على رأسِها ، فجلسَتْ بمساعدةِ أفرادِ الشلّة وهي تبكي ألَماً وخَجَلاً ، وتراءَت أمامي صورٌ وصورٌ حتى نهايةِ رحلةِ عودتي تأخذني الكبرياءُ .
وصحوْتُ على جَرَس التنبيهِ لوُصول الطائرةِ إلى أرضِ الوطنِ ، ووصلتُ داري وكُلّي حنينٌ له ولأصحابي من الجِنسَين الذين انقطعتُ عنهم شهوراً .. لم يحصَلْ هذا من قبلُ، قد سافرْتُ إلى نفس البلدِ البعيدِ جداً ولم أغِب عنهم أكثرَ من عشرينَ يوماً ، وأيضاً في كل سياحاتي إلى بلدانِ العالم لا أمكُث في أحدها أكثرَ من أُسبوعين .. لذلك أَشعر بهذا الشوقِ الكبير إلى لقائِهم ، كيف نتجرّأُ على عمل المعاصي وعينُ الله ناظرةً إلينا !!؟ لا أدري .
إنتفاضة : مرحلة التمرُّد على الأنا …
طبعاً كحال كل من عاد من سفرٍ طويلٍ ، لا يستطيع مزاولةَ أي نشاطٍ قبل أن يأخُذ قِسطاً من الراحة ، لانعدام النوم تقريباً في الطريق ، وتغيير الطقس بين البلدانِ .
وأثناءَ هذه الفترةِ ، أحسسْتُ بشعورٍ دخيلٍ على نفسي لم أعتَدْه من قبلُ ، وجدتُني أحاسبُ نفسي بطريقةٍ مغايِرة واتجاهٍ مختَلفٍ وأسلوبٍ جديدٍ.
لقد اعتَدْت محاسبةَ نفسي كلَّما خلوتُ في فراشي ، فألومُ نفسي على موقفٍ جَعَلَ فلانةً من الشلة تنكسَّر من عالي شموخِها واعتزازِها بنفسِها أمامَ رونَقي وجمالِ روحي وجاذبيَّتي التي أخذَتْ لُبَّ صديقِها ، فأُعَزّي نفسي بأنَّ هذا من نِعَم ربي الذي مَنحَني إيّاها ، فلا ذَنْب لي إذَنْ بعدم ثِقتِها بنفسها هذه مُشكلتُها هي ، وتلك .. وتلك … إلى أنْ أغُطَّ في نعمةِ النوم كي أُجدِّدَ نشاطي لمواجَهة مواقفَ طريفةٍ وخَلقِ أحداثٍ جديدةٍ، متسلحةٍ بتباهٍ عالٍ بما مَنَّ عليَّ به ربي من جمالٍ وموهبةٍ .
أما الآن لم يكن هذا مجالَ مِحورِ المحاسَبةِ ، ليس هذا بسببِ غيابي عن الجو فانقَطَع ما يدعو إلى المناقشةِ مع الذات ، حيث تنتظرُ حدثاً يكون مادة الحوار ، أبداً !! لقد كان دأْبي في جميعِ حالاتي .. في السفرِ والحضَر لا أنفكُ ليلةً واحدةً عن تلك المحاسبةِ .. فهي من أهمِ عاداتي التي تساعدُني على النومِ ، فمن أجل ذلك أقولَ بأن مِحوَرَ المحاسبةِ الآن كان غير تلك المادة أصلاً ، وتلك النوعية الهازئةِ والباهتةِ، ولكن بطريقةٍ تقشعرُّ لها الأبدان .
الآن برزَتْ لي – الأنا – في حِلةٍ جديدة .. الأنا الفاضلةُ المحِبَّةُ للخيرِ .. بعد أن كانت على الدوام تحُثُّني على أن أكون ( َنْمَبر وَنْ ) .. الرقم الأول والأعلى في جميع مجالاتي الحياتية ، أما الآن فهي – أنا – قاسيةً خائفة على صاحِبَتها من مصيرٍ مُخيف تُحقِّقُه أعمالُها الجائرةُ ، هذه – الأنا – التي برزَتْ لي اليوم انقضَّتْ على مكامِنِ شعوري فحرَّكَتْ نزعةَ الخيرِ والخوفَ من المجهولِ الموجودَين بالفطرة عند أي إنسان ، ولكنه يخبتُهما بمزاولةِ الأعمالِ الفاسدةِ ، وطبعاً العكسُ بالعكس ، المسألة تتراوح من شخص لآخر .
فأيقَظَتْ – أنا – اليومَ هذا الخيرَ المكبوتَ بالأعماقِ مرةً واحدةً ، تعاتِبُني وتَهُزُّ إحساسي كي يَصحى من خَبْوتِه ليدرَأَ عنّا شرَّ ما تُقدِّمُ يداي، تقول لي : إلى متى هذه الغفلةُ ، إلى متى هذا الاستهتارُ بالعُمرِ وقد بدأ العدُّ التنازلي ، والسنينُ والأيامُ يطوي بعضُها بعضاً بسرعةٍ مُذْهِلة ؟! إلى متى هذه المكابرةُ وهذا العنادُ وهذا الشَغَبُ السلوكي ؟! إلى متى ستأخُذُكِ العزّةُ بالإثم فتُبِهرُكِ الألقابُ المُغَرِرَةُ مُستَغِلَّةً ما مَنَّ به عليكِ اللهُ من نشاطٍ وفَرْطٍ بالحيوية في إظهارِ النقصِ عند الأُخْريات متسبِبةً لهنَّ بعُقدٍ نفسيةٍ مؤلِمَة ؟! إلى متى هذه المسيرةُ مع معصيةِ الله حتى يكونَ فيها هلاكُك ؟!!.
فكانت تارةً تُرْعِبُني من عِقابٍ شديدٍ ، وتارةً تُرَغِّبُني بتركِ هذا الغرورِ والتحوّلِ إلى طريق الخيرِ ، إلى طريق السلامةِ ، إلى طريق النورِ الإلهي ، طريقِ الحقِّ ، وتَحُثنُّي على توبةٍ نصوحٍ أُسَخِّر كلَّ مؤهِّلاتي لمسيرَتها ، وأستَغلُّ مواهبي في طاعةِ الله عزَّ وجلَّ ، التي سأكون في أَمَسِّ الحاجةِ إليها لتكونَ عبادتي على أحسنِ وجهٍ ، ولكنْ أنّى لي هذا وقد تملَّكتْني عاداتي ومساوئي التي لا أتخيَّلُ العيشَ بدونها ، وحاولْتُ أن أُذهِبَ هذا التفكيرَ من نتائجِ تلك المحاضرةِ مع – الأنا – ، كالعادةِ أهربُ من أي شعورٍ بالذنبِ فوراً وبأي طريقةٍ ، لا أدع مجالاً لسيطرةِ عقلي على نفسي ولا لثوانٍ ، ولكن وجدْت في نفسي الآن تجاوباً واستكانةً ، لا أرى فَكاكاً منها اليوم كالعادة السابقة ، كنتُ مستسلمةً كلّياً لتكملةِ ما تُمليه هذه – الأنا – عليّ، فلفتَتْ نظري إلى أنَّ هذا الجمالَ كلّه سيذهبُ بالموت ، وهذا الجَسَد الذي تتباهِينَ به سيَأكُلُه الديدانُ في الترابِ ، و سينعدمُ كُلُّ حِس كان منكِ وينتهي كلُّ شيء بعد الموتِ ، اِعقلي يا هذه وارجِعي إلى مَولاك الذي خَلقَك فأحسَن خَلْقَك ، فوهَب لكِ هذه الصحةَ والحيويةَ التي تَصرِفينهما في غير ما خُلِقَتْ له ، وعلى غير ما وَجب عليكِ عملُه ، فتركتيها ألعوبةً في يَدّ الشيطانِ .
إلى متى تلهثين لحُب هذه الدنيا طالما تعرفين أنها زائلةً ، منتهية بنهاية حتمية ؟!! لماذا لا تُنِقذين نفسَك من بَراثِنِ ذلك اللعينِ الذي سيودي بك إلى هلاكِكِ ثم يتبرَّأُ منك ؟! ووجْدتُني رويداً رويداً أنصاعُ إلى نصائحِ – الأنا – وبياناتِها السابقةِ ، بدأتُ أشعرُ بالخَجَل منها عند أي سلوك خاطئٍ ، وأصبحْتُ أكرَهُ كلَّ من سبَّبَ لي أو دعاني أو شجَّعني على أي خطأ ارتكبَتْهُ نفسي الضعيفةُ ، وبدأ الاستغفارُ يأخذ طريقَه إلى لساني ، حتى تعوَّدْتُ أن لا أنامَ قبل أن أَستغفر ربي من كلِ عملٍ مُخزٍ قمتُ به ، وأنا أشعُرُ بخجلٍ يجتاحُ كياني فيُلَملِمُني حول بعضي في فراشي ، ارتَعِدُ خوفاً وخَجَلاً من أعمالي المستَهتِرةِ ، إلى أن تحوَّل هذا الشعورُ بقُدرةِ قادرٍ إلى قناعةٍ قويةٍ شَحَذَتْ عَزيمتي على تَركِ أمورٍ كثيرةٍ كنت لا أَطيقُ التخليَ عَنها .
اختيار الطريق الأمثل للتوبة :
وأوَلُ عملٍ هداني إليه ربي هو تَركُ تلك الشلةِ وجميعِ من عَرفْتُ فيهم السوءَ من المعارفِ ، وذلك بالاعتذارِ أولاً من زيارتِهم لي بمناسبةِ عودتي بعد هذا السفرِ الطويل ، فلم أسمَح لأحدٍ أن يدخُلَ بيتي ، ومن ثم اعتذاري عن السَهَر معهم لأنه لا طاقةَ ليَ اليومَ على تحمُّل سخافاتِهم ، وتبديداً لظنونهم جاءوني متتابعِين يستفسرون عن هذا التغيُّرِ المفاجِئ ، أَهُو كَيدٌ جديدٌ أَكيدُه لهم ثم أُفاجئُهُم بمظهرٍ جديد لا يعرفونه قبلُ كما كنتُ أفعلُ ؟! أم أنني مُنزعجةٌ من تَصَرُّفٍ ما من قِبَلِبهِم ؟! فكان جوابي لكلٍ منهم : إنني أريد أن أعيشَ حياةً مغايِرةً لما كُنت عليه ، وبكلِ جُرأةٍ صارحْتُهم بأنني لا أريد أياً منهم أن يشارِكَني حياتي الجديدةَ ، فظنوا أنني أُسِرُّ عنهم مشروعَ زواجٌ سِرّي ، تركتُهم لظَنّهمُ الغبيّ ، لأنهم يَعلمون جيداً بأنني لستُ بالتي تَخْتبئِ بزواجٍ من هذا النوعِ على كثرةِ ما عُرضَ عليَّ ذلك وعلى معرفةٍ منهم ، تركتُهم يظنون بيَ الظنونَ لأنني أنا نفسي لا أدري ما بي وماذا أريدُ ولماذا ؟ وكيف هذا الانقلابُ الجَذريُّ المفاجئ، الشاملُ لكل تفكيري وعملي .
ومن ثم هَمَدَتْ رغبتي باعتنائي بَمظهري، وبشكلٍ مُشينٍ مْبتَذِل ، فتركتُ الكوافيرَ وبُيوتَ الأزياءِ ، والتي طالما سافرتُ لحضورِ عُروضِها وشراءِ النفيسِ والغريبِ والجديدِ منها، حتى في سفري هذا لم أَرْغَبْ بشراءِ أيِ شيءٍ من هذه الأمورِ .
وأصبَحَتِ – الأنا – هي الآمرةُ والناهية لجميع تصرفاتي ، لا تَدَعُني أتملَّصُ من إرشاداتِها لأي عُذر ، تحبسني أياماً داخلَ البيت الذي ما كنتُ سابقاً لأطيقَ المكوثِ فيه أكثرَ من ساعاتِ النومِ والقيام ببعض الأعمالِ المنزلية ، وأخذْتُ أتلهّى عن ملاقاتِ الناس بمتابعةِ برامجَ التلفاز، التي لم أكن أحتَملُ متابعةَ أيٍّ منها ، فلا وقْتَ عندي لكي أضَيِّعَه في سخافاتٍ تُبعِدُني عن الأصحابِ ، الذين أصبحْتُ دونهم كسمكَةٍ بلا ماءٍ عَجَبي !.. كلَّ العجبِ أنني أصبحْتُ في استغناء عنهم الآن !.. لقد انتصرْتُ على وهْمٍ من وحْي أستاذي سابقاً إبليس ، بأن موتي في تركِهِم، أو البُعْدِ عنهم .. لأني أصلاً أكرهُ مساوئَهم ، ولكني أَقسر نفسي على معاشَرَتهم لأُحَقّقَ ذاتي بينَهم ، وأُرضي غروري معهم ، ويُزَيَّن لي اللعينُ أعمالي لأنَّه يخشى أن أتفلَّتَ من عُقالِهِ ، فيزيد من جُرعة هذا الوهم ، بأعمالٍ يعرف بأنها تستهويني .
أصبحْتُ أستطيع المكوثَ لمشاهدةِ التلفازِ أغلبَ ساعاتِ النهار والليلِ ، أنتقلُ من مشاهدةِ قناةٍ إلى أخرى جاعلةً – جهاز التحكم ، الريموت كنترول- وسيلةً هدفُها إِبعادُ المَلَل من شيءٍ لم أعتَدْه ، ثم تعودْتُ على هذه النَقْلَةِ العجيبةِ في حياتي والغريبةِ عني ، والتي كنْتُ استنِكرُها على كل مَنْ تعوَّد على متابعةِ البرامجِ التلفزيونيةِ .. وأصبحْتُ أعتذرُ عن زيارةٍ تِلْوَ الأُخرى ، وعن مناسبةٍ تِلْوَ الأُخرى ؛ وحَجَّتي التي أُبديها لهم أنني لا أستطيعُ ترك متابَعَة ذلك المُسَلْسَلِ ، وذاك الفِيلمِ ، فلم تُصَدِّق آذانُهم ما تسمعُ من عجائِبِ أمري ، فَمستحيلٌ وصول ذلك إلى قناعتِهم ومن ثم تصديقه .
طريق التوبة :
لم أكن أدري أنَّ العنايةَ الإلهية تُسيِّرني وتدعوني إلى طريق الحقِ، لم أكنْ أدري أنَّ هذا تهيئٌ لطريقٍ جديدٍ أعانني عليه أرحمُ الراحمين .
تعوْدت المكوثَ في البيتِ أياماً لا أخرجُ منه إلا لشراءِ الحاجاتِ الضروريةِ ، وبلباسٍ بعيد عن الابتذال . أصبحَتْ نفسي ترتاحُ إلى الاحتشام في كل شيء ، وأخَذَتْ تصارعُ رغباتي الشيطانية من كل جهة في مدة عام تقريباً .
وجاء شهرُ رمضانَ المباركُ ، فأصبْحت أُتابع المسلسلاتِ الدينيةَ، ومحاضراتِ الفقهِ الإسلاميّ ، وبرامجَ تُبَيَّنُ عَظَمةَ الخالقِ .. من عالَمِ البحارِ ، وعاَلمِ الفضاءِ ، إلى عالَمِ الحيوانِ، والنبات ، والهوام .. فكانتْ مشاهدةُ تلك البرامجِ تُوقِعُ في قلبي وعَقلي أثَرهَا البالغَ ، فتَهُزّ ُأعماقي وتشُدُّني للتقرُّبِ إلى هذا الخالقِ العظيمِ ، فبدأْتُ أرغَبُ في عبادةِ اللهِ القديرِ بعدما وَعيْتُ وعرفْت عظمتَه ، فتُبتُ إلى الله بنيةٍ صادقةٍ ، وأَخَذْتُ أُصَلّي فَرضي ، مع متابَعةِ برامجَ التلفازِ ، وسماعِ الأغاني وأُبدي رأيي بهذا المُطربِ وبتلك الفنَانةِ ، ثم وجدتُني رويداً أتملْمَلُ من تلك المشاهداتِ .
وأحياناً أُحس بالخَجَل من مشاهدةِ العورات ، أتخيَّل أنَّ ربي يراني وأنا أُتابعُها ، فأَقِلبُ القناة إلى برامجَ تمثيليةٍ لا عوراتٍ فيها إلا ما نَدَر ، لأنه وللأسف لا يخلو الأمرُ من ذلك حتى في المسلسلاتِ الدينيةِ ، فنجدُ بعض الأدوارِ النسائيةِ فيها بمنتهى الفجورِ ، ولا داعي لذلك إلا لشدِّ اهتمامِ الجمهور أو لأمرٍ تجاريٍّ بَحْتٍ ، على الرغم من أن الشخصيةَ في هذا المسلسل تكون لامرأة صالحةٍ !. فنشاهد التي تُمثِّلها في أجمل ثيابٍ وزينةٍ ، تُشَوِّهُ أصلَ الهدفِ ، وحتى المسرحياتُ الضاحكةُ لم أَعُد أُطيق رُؤيَتَها ، لأنَّ – أناتي – تبرزُ لي وتهمسُ، أتضحكين وأنت فعلتِ ما فعلت من المساوئ ، والتقصيرِ في عبادة الله ؟ هل يا ترى بقي بالعُمر ما يكفي للتعويض ، إلى متى ستهدُرين الوقتَ وتضِّيعينه هكذا ؟ وأصبحتُ أكره التلفاز أيضاً لما وجدْتُ فيه من إباحيّاتٍ مُخْجِلةٍ .
فهداني اللهُ إلى مطالعةِ كتابٍ كان ابني قد أهدانيه عندما زُرتُه في بلادِ الغرب ، وكم تمنَّى علي وقْتَها أن أقرَأَه ، فقط جاملْتَه بقراءَة بِضع صفحاتٍ وتركْتُه جانباً ، لأنه كتابٌ دينيُّ وأنا لم أعتَدْ إلا قراءَةَ المجلاّتِ الفنيةِ والقَصصِ العاطفيةِ التي كُنْتُ شَغوفةً بقراءتِها ، إلى جانب مطالعةِ الكتُبِ الأدبيةِ والعِلميةِ والطبيَّةِ ، أما كتُبٌ دينيةٌ فهيهاتَ أن أستَحمِل قراءَتَها ، أما اليومَ فإنني أجدُ في نفسي رغبةً ولهفةً إلى قراءةِ ذلك الكتابِ ، علمْتُ بعد قراءَتِه بأن دافعاً إلهياً ألهَمني قراءَتَهُ ، وعندما قرأْتُ ما كنت قد قرأْتُه من قبلُ تبيَّن لي أنّه يوضِّح صورةً جليّةً ومغايرةً عما قرأتُه مسبَقاً ، وعما وصل إلى مداركي من معانٍ مُبهمَة لم تُحرِّكْ عندي ساكناً ، أما اليومَ فإنّ كلَّ صفحةٍ أقرأها تَهزُّ أعماقي وتُنيرُ مداركي أشدَّ من الصفحةِ التي قبلَها ، وما وصلت إلى رُبْعِ الكتابِ حتى أحْسَسْتُ بأنني نُقِلتُ نَقْلَةً هائِلَةً من عالَمٍ إلى ضِدّه ، وأحسَسْت بألمٍ شديد في رأسي وبدُوار يلفُّ بي الكرةَ الأرضيةَ ، وكنت كمن ضُرب على رأسه بآلةٍ حادةٍ، ولم أَعُد أتجرّأُ أن أُمارِسَ القراءةَ ، قد خانَتْني قُوايَ الفِكريةُ على متابعةِ ما أقرأُ على مدى يومين ، وأنا في لَهفةٍ وشَوقٍ إلى هذه المتابعةِ .
ولكي أعيشُ تحتَ تأثيرِ ما قرأتُ ، مما عرْفتُ من شأنِ الله في قُدرته وعَظمَتِه ، وعِقابه وجَزائِه ، فهيمن على كياني الشعورُ بالخوفِ والخجلِ من أعمالي وإِهمالي في معرفةِ خالقي وما يريدُه من كل عبدٍ خلَقَهُ ، وما دَورُ الإنسانِ في التكليفِ الإلهي له في هذه الحياةِ الدنيا ، وكيف أنَّ هذه الحياةَ بمثابةٍ جِسرٍ نَعبُرَه إلى الله ، إلى الحسابِ .. فإمّا الجزاءُ بالثواب، وإما بالعذاب !.. ولكل نفسٍ ما عَمِلَتْ .
وما أن أتمَمت قراءةَ الكتابَ حتى بَدَوْتُ إنسانةً أُخرى ، أَحَسَّتْ إنسانيتَها التي هَدَرَتْها رخيصةً بين أنيابِ إبليسَ وأوليائه ، هذه الإنسانيةُ المقدَّسَةُ التي توَّجَها خالقُها بعقلٍ شرَّفها به كي تُدركَ وحدانيَّتَه وعَظَمتَه ومعرفَتَه ، ومن ثم طاعةَ أوامِرِه ، والانتهاء عن معصيتهِ ، أين أنا يا إلهي من هذا كلِّه ؟؟ وأين باقي الناسِ الغافلينَ الجاهلينَ هذا كلَّه ؟!
إلى متى يا ربُّ ؟.. يا ربُّ أريدُ خَلاصاً من هذهِ الازدواجيةِ الكريهةِ بين العَمَل والفِكرِ ، وهذا التناقضِ العجيبِ بين العِلْمِ والعَمَلِ ، وهذا الصراعِ المميتِ بين حُبِّ الحياةِ والخوفِ مما بعد الموتِ ، إلهي أتوسَّلُ إليك أن تُلِهمَني رُشدي ، إلهي خُذْ بيدي حتى تُبَلِّغَني رضاك ، إلهي أُقسم عليك باسمِك الأعظمِ أن تُعينَني على حُسن عبادَتِك وتَقْبَلَ توبتي لوجهك الكريم ، إنَّك تعلمُ يا إلهي بأن ما من أحدٍ في هذه الدنيا يهمُّني إرضاؤُه ولا محبَّتُه بعد معرفَتِك إلا أنت ، أستغِفُرك يا الله لذنوبي جميعِها وأتوبُ إليك يا الله ، ألتَجئُ إليك يا الله ، أحتَمي بك يا الله ، أستعيذُ بك يا إلهي من شَرِّ نفسي ومن شرِّ الشيطانِ الرجيِم ، ومن شّرِ كل إنسانٍ لئيمٍ ، أستغفرُك يا عظيمُ من كل ذنبٍ عظيمٍ ، إنَّه لا يغفرُ الذنبَ العظيَم إلا العظيمُ .. يا ربُّ .
صحوة من غفلة :
أدركْتُ الآن بيقينٍ أكيدٍ بأن عنايةً إلهيّةً رعَتْني وأَحاطَتْ بي وأعاَنْتني على التخلُّصِ من أوزاري ، ومن حُبي للدنيا وملذَّاتِها ، وتعلُّقي بمعاشرةِ الناس المستهترِين لدين الله ، وساعَدني اللهُ تعالى على توبةٍ نصوحٍ لا رجعةَ فيها إلى تلك المعاصي برحمتِه وهُداه .
وبدأْتُ المسيرةَ الجديدةَ المغايِرةَ لكل ما مضى من حياتي ، حتى مشاهدةُ التلفاز لم أَعد أَجدُ لها معنىً ولا وقْتاً ، بل كرَّثتُ وقتي لتعلّم أمورِ ديني وتفسيرِ كتاب الله ، الذي أصبحَ من أحبِّ الأمورِ إلى قلبي وعَقلي ، وبعد ما عرفْتُ أن الطريقَ إلى اللهِ هو معرفتهُ ، وأنَّ الوصولَ إلى حُبّهِ وسيلتُه العلمُ والمعرفةُ ، وأننا إنْ لم نَعرفِ الشيءَ لا نُحبُّه ، وذلك يستوجِبُ الدأْبَ على مطالعةِ الكُتُبِ الفِقهيّةِ القيِّمَةِ للتوصُّلِ إلى حُبٍ حقيقيٍ لخالقٍ عظيمٍ ..
وهذا يستوجبُ أيضاً صَبراً ووقتاً ، وأصبَح ذلك متوفِّراً لديَّ بعدَ أن طلَّقْتُ حبَّ الدنيا ثلاثاً ، وتعلَّمْتُ الدعاءَ فأصبحَ سبباً لقيامي بالليل لممارسَتهِ ، أدعو ربي وأُناجيه وأرجوه قَبولي عِنده وأن يَرزُقَني حُبَّه وعفَوه ومغفرتَه ، وأخذ فؤادي قراءةُ القرآنِ .. تستوقِفُني آياتُه ، أتعمَّقُ في كَشف مضمونِها وهَدفِها ، وأتدبَّرُ معانيها بمساعدةِ كتيِّبٍ يُفسِّر ما يصعُب على القارئِ فَهمُهُ .. فكانت فترةُ ما بين صلاةِ الفجرِ وصلاةِ الضُحى من أمتَع ما أَشعُر به طيلةَ وقْتِ عباداتي المتَنوِّعةِ ، وكم رغِبْتُ الاستزادة منها بعد أن ذُقْتُ حلاوتَها ، وهكذا على مدى أَشهر ، وكلّما رجَعْتُ إلى قراءةِ سورةٍ من القرآن أجِد فيها جديداً عما فهْمتُه من قَبلُ ، فأَعلمُ بأنَّ اللهَ ينير لي بصيرتي في كلِ مرةٍ على نحوٍ أفضلَ من سابقتِها، وبأنَّ المعرفَة تأتي تدريجيّاً.
معركة النفس على التحجب :
لقد توصَّلْتُ في قراءتي للقرآن أنّه يتوجَّبُ عليَّ الحجابُ ، لقد قرْأتُه أمراً من الله في كتابهِ المبينِ لنساءِ المؤمنينَ ، وليس كما كنْتُ أعتقد مما سمِعْتُه من الجاهلين في أمورِ الدين أنَّ الله أمر بالحجاب أمهات المؤمنين نساء النبي صلّى الله عليه وسلَّم خاصّةً .. ماذا ؟!! هل أستطيعُ تنفيذَ أمرِ اللهِ ؟ فعلاً صَعَقَني هذا الأمرُ الإلهيُّ ، حيث أدركْتُ أنَّ كلَّ ما كنت أفعلُه من صلاةٍ وقيامٍ في الليل ودعاءٍ وجدتُه هباءً منثوراً!! صُعِقْتُ لأنني كنتُ أظنُّ بأنني توصَّلتُ إلى إرضاءِ ربي بما أُمارسُه من عباداتي ، فعَلِمْتُ أنَّه ينقُصني اتباعُ أمرين مهمَّين بيَّنهما اللهُ في كتابهِ العزيزِ في سورةِ النور ، قال تعالى :
﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
[ سورة النور]
ما العملُ يا ربي ؟ كيف السبيلُ يا إلهي وأنا التي لا تُطيق اسم الحجابِ فكيف فِعْلَه؟! وأنا التي لا .. ولم .. ولن أستطيعَ أن أتخيَّلَ منظري مرتديةً لباساً شرعياً ، وأنا التي كنتُ أقولُ في كل مناسبةٍ يُذكَرُ بها الحجابُ : لو رأيتُ جهنَّمَ بأُم عَيني ما أنا بواضعتِهِ على رأْسي ولو أحرقوني بها مائة مرّةٍ . ما العمل الآن ؟ ما العملُ وقد عَلْمتُ بأنّه أمرٌ من اللهِ ، وعلى المؤمن أن يقولَ سَمعنا وأطَعنا ؟ إنَّ رأسي يكاد ينفجَّر من شدةِ التفكيرِ الواهِم بأنني إنسانةً منفردةً بميزةٍ جامعةٍ لكل الصفاتِ الحميدةِ .. طيبةُ قَلبي المتناهيةُ ، وحُبّي للناس ، ومساعدةُ المحتاجين ، بالإضافةِ إلى صلاتي ، وقيامي ، وصيامي الذي أصبْحتُ أصومُه مستغِلَّةً كل استطاعتي على وفاءِ ديوني لله ، وتَعويضُ ما فرَّطْتُ بجنْب الله من حقوقٍ وعبادات ، والاستغفارُ الدائمُ مع الدعاء .. توهَّمت بأن كل ذلك سيُعفينني من العقاب ، لأن اللهَ يعلمُ بأني لا أُطيق الحجابَ ، وحَتماً سيسامِحَني ويُعفيني !!
بَقيتُ مدى شهورٍ على هذا الحالِ ، تارةً أُوهم نفسي برحمةِ ربي مع هذه المعصيةِ ، وتارةً أحاولُ إقناعَها بقَبولِ ما قرأْتُ وتنفيذِ ما أُمِرْتُ، وبأنّه يَشْمَلُني إذا كُنْتُ مؤمنةً حقاً ، وليسَ موقوفاً على نساءِ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، وفي ذلك مخالفةٌ لأوامر الله الذي أبتَغي رضاه ، فما هذا التناقضُ !! فأتذكَّر قولَه تعالى في سورة البقرة :
﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
[سورة البقرة الآية : 85]
فأشفق على نفسي من هذا التعنُّت والعناد .
يا إلهي كيف الوصولُ إلى اللينِ والرضوخِ لأمرِك ؟ إلهي بغيرِ عنايتِك بي ورأفَتِك بحالي وهدايَتِك لي وإلهامِك القَبولَ به لن يَحصلَ هذا ولو اجتمعتِ الإنسُ والجن على إقناعي به ، ومن رَحمةِ ربي بي ليُخلِّصَني من هذا الترددِ المُضني .. أَرسَل ابني البِكرَ من بلادِ الغرب ليُقيم في وطَنه بعد انتهاءِ أمرِه فيها .. وجاءَني بأجملِ وأثمنِ هديّةٍ ، ألا وهي زوجتُه العزيزةُ على قلبي ، والتي تحملُ طباعي الحميدةَ وعاداتي الحسنةَ التي تعلّمَتْها من زوجِها حتى ، غَدَت وكأنّي أنجْبتُها مني وربَّيتُها معي ، تلك الأجنبيةُ المُسلِمَةَ !! .
وطبعاً كنا نجتمع باستمرارٍ ، ولأنّه إنسان ذَكيُّ جداً يعي ما يَفعلُ ويَعلم أمورَ دينهِ جيداً ، ويؤمن بقول الله تعالى :
﴿ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾
[سورة القصص الآية : 56]
وقوله تعالى :
﴿ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
[ سورة البقرة الآية : 256]
فقد كان حِيادياً إلى أبعدِ الحدود في أمورِ الدين مع كلِّ الناس ، لم أَعهَدْ منه إِحراجاً يُربِكُ بهِ أحَداً ، ولكنَّه كان فقَط في كلِّ اجتماعٍ بين أفراد العائلةِ يشرَح لنا أموراً من أساسِ العقيدةِ الإسلاميةِ لم نكن على دِرايةٍ بها ، ويجعلُ وبدون تَكَلُّف منه الجلسةَ كلَّها شوقاً وانبهاراً وشغفاً إلى سماعِ المزيدِ من قِبَلِ الجميعِ ، كان يَتَعَمَّد أن لا يُسهبَ في حديثٍ إلا بإلحاحٍ من الجميع ، ويَقْطَعُ الجلسة والكُلُّ آذَانٌ صاغيةٌ إلى ما يقول ويبيِّنُ من أمورٍ جديدةٍ على أسماعِهم، ويَدَعُهُم في شوقٍ كبيرٍ إلى لقاءٍ قريبٍ ، حتى أنه جَعلَنا نتحيَّنُ الفُرَصَ ونخَتِلقُ الدعواتِ حتى نستَفْرِدَ به ويتسنّى لنا مزيداً من عِلمِهِ النيِّرِ والآَسِرِ للألبابِ والذي يُلَيِّن أكبرَ رأس متحجِّرٍ ، ويَجلي الصَدأ من رؤوس الجَهَلَةِ المتعنِّتين .
وبحمد الله ومِنَّتِهِ وفَضْلِه جَعَل قَبَسَ النورِ الإلهيِ على لسانِ ابني، فكانتْ الشرارةُ الملهِبةُ لجميع قناعاتي ، أنَّ من عَرف الله أحبَّه ، ومن أسكَن حبَّ الله قلَبه ينصاعُ لأوامره ، وينتهي بنواهيه ، حتى ولو كانت على غيرِ مزاجيَّتِه وأهوائِه ، وكان مَظْهَرَ زوجَتِه الأجنبيةِ بالحجابِ يُشعر بالخَجَل لكل مسلمةٍ اعتادَتْه بوارثةٍ للتقاليد ، ولمن تضعه إيماناً واحتساباً .
كيف أتوهَّمُ صعوبَتَه ، وتلك الأجنبيةُ كانت لا تَحْتَمِلُ أي لباسٍ على جَسدَها في حياتِها وبيئَتِها الغربيةِ !! فها هي تَضَعُه إيماناً بالله واحتساباً لمرضاتِه ، وكيف أتوهَّمُ من حَرِّهِ، وأنسى أو نتناسى حر جهنم، وقوله تعالى في سورة البقرة :
﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾
[ سورة البقرة الآية : 175]
فلا بدَّ من خطوةٍ وعزيمة على التقرُّب إلى اللهِ عزَّ وجل بإطاعة أوامرِه ، فأيقَنْتُ الاستسلام لأمرِ الله ، ولكن كيف ؟. إن قلبي يَخفِق بشدةٍ لمشقَّةِ هذا الأمرِ على نفسي ، لا بدَّ من قَسْرها على طاعةِ خالِقها في تنفيذ أوامره . وبالقمعِ المطلق ، لأنها هي التي تُهلكُ صاحبها الذي ينقاد لتنفيذ أوامرها .
فعقَدْتُ العزم وذَهبْت مع ابنتي الشابةِ إلى السوقِ بعد انقطاعي عنه شهوراً عديدة تُقارب السَنةَ ، وأتْيتُه الآن لكي أشتري ثيابَ الطاعةِ والحِشمةِ وأنا مُشَتَّتة الفِكر ما بين عَقلي ونفسي ، قلبي يكادُ ينخلعُ من مكانِه لشدة فرحي بتلك الخطوةِ ، ونفسي تُهيبُني من مَقدِرَةِ احتمالِه ، يا ربُّ ، هل أستطيعُ ذلك ؟.. اللهم أَعِنِّي على طاعتِك ، واشترْيتُه ، اختارَتْه لي ابنتي من أجودِ الأنواعِ تعبيراً على فَرَحها بما مَنَّ اللهُ من فضْلِه على والدتِها من الهدايةِ ، اشتريْتُ الملابسَ الشرعيةَ ووضْعتُها بالخِزانَةِ ، أمَّا التنفيذُ ، فما أحوجَني إلى قوةٌ إلهية تعينني عليه ، إنني أتحيَّنُ فُرصَةَ المَقِدرَةِ على مقاومةِ إيحاءاتِ الشيطانِ الذي يُوهِمُني بَعَدم المَقْدِرَة وأنا في بيتي هذا ، يجب أن أُغَيِّر منزلي إلى مكانٍ آخر لأنني لا أرغَبُ مشاهدَةَ جيراني لي بمَظْهري الجديدِ ، بعد أنِ اعتادوا مشاهدتي بأشْيَكِ حالاتي ، ومن ثم أبدأُ مرحلةَ التغيير هذه ، وقد أوحى لي ذلك اللعينُ أنه لا مانِع من الانتظار إلى ما بعدَ الحجِّ فتكونَ خطوةٌ مُقنِعَة لي ولجميع من حولي .
واستمرَّتْ لقاءاتي مع ابني ، وسَردِ أحاديثهِ الدينيَّةِ ، وأنا أشعرُ بقلبي يشتَعلُ غَيظاً ورَهَباً من عنادي في هذا ، ومما سيوصِلُني إليه بعد قناعتي التامَّةِ بوجوبهِ ، وأنني لم أَعُد مقصرةً في شيء من عبادتي إلا هو ، وعرفت من خلال أحاديث ابني أنَّ هذا الأمرَ من تلبيسِ إبليسِ، ومن بين المواضيعِ التي طَرَحها علينا ابني أيضاً موضوعُ الصلاة ، وياله من موضوعٍ كنتُ في أَمَسِّ الحاجةِ لمعرفَته ، لم أكن أَدري بأنها مفتاحُ الوصولِ إلى باب الحقِّ ، وإنَّه من خلالها فقط يستطيع الإنسانُ أن يتناجى مع ربِّه بصورةٍ حقيقيةٍ ألا وهي الصلاةُ الخاشعةُ .
لقد اكتشفْتُ من خلالِ الحديثِ عن الصلاةِ الصحيحة بجميعِ أركانِها وسُنَنها وفرائِضِها ، أنني لا أعرفُ منها إلا حركاتٍ تقليديةً متوارَثةً مع الخَطأ والجهلِ .. هذا التقليدُ المتوارَثُ الذي هو من أكبَر المصائبِ على ديننِا ، وهو أكبر سببٍ للتراجع الديني بسببِ أخطائه المتوارَثَة والدين منها برئ .. لم أكنْ أَعلَمُ أن الدُّخولَ في الصلاة وَقْفَةً بين يدي الله جلَّ وعلا الذي يرانا ويَسمع تلاوَتنا القرآنيةَ ، ويرى حركاتِنا فيها وما يَجيشُ في خواطِرنا ، كنتُ أَعتَقِدُ أن الصلاةَ مجرَّدَ فرضٍ يجب علينا أداؤه وبالوقت الذي ما يتسنى لنا ذلك ! ، وكم كنتُ أُؤَخِّرُ صلاةَ الظهيرةِ إلى قُربِ مَوعد صلاةِ العصرِ حتى أُصليَهما بوقتٍ واحدٍ تقريباً ، وكذلك صلاةُ المغرب إلى صلاةِ العشاء ، وكلُّ ظني أنني على صوابٍ ، المُهِمُّ عندي أنني أُصلي كلَّ وقت بوقْته وهو قبل دخولِ الوقتِ للصلاةِ التاليةِ وشتانَ !. شتانَ بين ما كنتُ أفعلُ وبين ما تعلَّمتُ ، بأن وقْتَ الصلاة الحقيقيّ هو عقِب انتهاءِ الآذان مباشرةً ، وأنني كلما توضَّأْتُ أَكْسَب أجراً أكبر ، وتعلَّمْتُ كيف أقرأُ سورة الفاتحةِ بشدَّاتها الأربَعَة عَشَر ، وكيف الوقوفُ بين يدي الله بخشوعٍ خالصٍ ، لا أُفَكَّرُ إلا بمعاني ما أقرأُ من كتابِ الله الكريمِ ، وأنا أتخَّيلُ قُربَ الله مني ، فأقفُ بأحسنِ حالٍ ، وأقرأُ بأسَلمِ لفظٍ ، وأَعيشُ مع ما أَقرأُ راجيةً وخائِفَةً ، وتعلَّمْتُ كيفيةَ الركوعِ ومَعناهُ ، والوقوفَ بَعده لحظاتٍ ، أقولُ فيها بعد سمع الله لمن حَمِده .. اللهم لكَ الحمدُ ، حمداً كثيراً طيباً مبارَكاً فيه .. ثم السجودُ المستكينُ ، ومعناه ، والجلوسُ بين السجدتين والدعاءُ هنا .. اللهم اغفر لي وارحَمني ، وارزْقني ، واهدِني .. وتكونُ الجلسةُ قريبةً من مُدَّةِ السجودِ ، والدعاءُ قبلَ التسليمِ ، بما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يدعو به ويعِلّمُه للناسَ .
آه .. ثم آه ، ما أجمَلَها من صلاةٍ ، وما أَرْوَعَه من شعورٍ ، شعورُ صِلَةِ الإنسانِ بربهِ ، كنْتُ محرومةً من كل هذا بسببِ جَهلي بالصلاةِ الحقيقيةِ الصحيحةِ ، وكم شَعَرْتُ بالقُرْبِ والمحبَّة من الله ، وبالسعادةِ والاطمئنانِ ، وأنا أَقرأُ آياتِ اللهِ وفيها الأَمَلُ برحْمَته لمن أطاعَه وأتمر بأمر رسولهِ ، وبعفوهِ عمن تاب عن معصيتهِ ..
مرحلة العبادة :
الآن فقط عَرْفتُ سَبَب تكاسُلي الوهميّ ، وسيطرةِ الشيطانِ على هِمَّتي ، وإحباطِ رغبتي في طاعةِ أوامرِ ربي وتنفيذِها ، عرَفْتُ بأن الصلاةَ هي أهمُّ صِلةٍ وأَوْلاها بين العبدِ وربِّه ، فكيف تكونُ صلةٌ من غيرِ خشوعٍ ومن غيرِ علم تامِّ بكيفيِتها وصلاحيتها ؟ كيف تأتينا رحمةُ الله ، ما لم تَخْشَع قلوبُنا بذكْره ونحن بين يديه ؟.
وجاءني القَبولُ ، جاءني النورُ الإلهي الذي لا يَقِف بطريقه عائقٌ.. إلهي .. لا مانِع لما أعطيْتَ ، ولا مُعطِي لما منَعْتَ ، سبحانَك ، لقد ذُقْتُ بعد أيامٍ طعْمَ الصلاةِ الخاشعةِ وأنا أَهيج ببكاءٍ حاد ، أبكي بين يدي ربّي بدمعٍ حارقٍ من ذنوبي ، ومن ما ضيّعْتُ بجنب الله ، كلَّما قرأتُ وتمعَّنت آياته ، وأيقَنْتُ عَظَمتَه وقُدرَتَه وشِدةَ عِقابه للغافلينَ عن عبادَتِهِ ، والعاصين لأمرِه ، وعظيمَ رحمتهِ بأحبابه ، فعزَمْتُ أن لا أكونَ إلا من أحبابِه مهما شقَّ عليَّ ذلك ، فأنا أسأَلُه آناءَ الليلِ وطيلةَ النهار أن يَهَبَني رحمَته ، ويُعينُني على حُسْنِ طاعَتِهِ .
وقد منَّ اللهُ عليَّ بها ، إنَّه نِعْم المَولى ، ونعم المجيبُ ، ويالها من استجابة إلهيةٍ كريمةٍ ، من ربٍ رحيمٍ كريمٍ ، عفوٍّ ، غفورٍ ، توابٍ عظيمٍ ، فرزقَني التوبةَ من واسع رحمَتِه وأفضلِ أبوابها ، فوهَبَني الزُّهْدَ بالدنيا بما فيها ، بعد أنِ استَحْوَذَتْ على عقلي ، وأخَذَني متاعُها الفاني نحو ثلاثينَ عاماً ، فلم يَعُد يهمُّني شيئاً من أحوالِها ، ولم تَعُد تعني عندي شيئاً ، إلا التزوَّدَ فيها بما يجعلني أهلاً لرحمةِ ربي في الآخرةِ ، فنذْرتُ نفسي لله ، وأعانني اللهُ جل وعلا على أن أُبِّدل جميع أعمالي السيئةَ بأعمالٍ صالحةٍ .
1ً ـ فبعد أن كان كلُّ همي باعتنائي بمظهري حتى أبدوَ في مرحلة السن الخامسةِ والعشرين ، وذلك ما كان يدور على مسامعي ، وأنا في الخمسين تقريباً ، فرحةً بهذه الميزة التي دَفعْتُ ثمنها كلَّ وقتي وفِكري ومالي ، حتى لا أَخَسَر المديحَ والإعجابَ الذي لم أَحصُدْ منه إلا الغَيرةَ والحسَدَ والكَيد ممن حولي ، وبالتالي احتقارَ الذاتِ كلما خلوتُ بنفسي ، فأصبَحْتُ الآن بحمد الله وفَضلِه لا يُؤَخّرُني شيءٌ عن أمرِ ربي.
فأخَرجَتُ الحجابَ والجِلبابَ من خِزانَتي التي وضعتُهم فيها متردِّدة كيف ألبسها ؟ وهل أستطيع ذلك ؟ وها قد جاءني الدافعُ الرباني فلبستُه وكأنني تعوَّدْت عليه منذ سنواتٍ ، إلا أنني لم أُتْقِنْ وضْعَه لأنَّه لم يَعُد يَهمُّني حُسنُ المظهرِ ، إلا ما يُرضي الله ، فجاءَتْ ابنتي وأَصْلَحَتْ لي من شأنِه ، وذهبْتُ ، وأوَّل ما ذهبْتُ مرتديةً إياه إلى أحدِ المساجدِ لتلقّي العلم من صاحبِ الكتاب ، أي مؤلِّفهِ الرائعِ ، ذاك الكتابُ المنيرُ الذي بدأَتْ مسيرتي من خلالِه ، جزى الله ذلكَ الشيخَ الكبيرَ ، والمؤلِّفَ القديرَ كل الخير ، وأكثَر اللهُ من أمثاله لفائدةِ عبادهِ .
وكم كانَتْ فَرْحَةُ العائلة كلِّها بلبسي الحِجابَ ، وكلُّهم كانوا يعلمون مدى رفضي له ، وبما أنهم يحبونني جداً ويتمنَّون لي الخيرَ ، فرِحوا لرعايةِ الله لي وفضلهِ عَليّ ، وكانت ردةُ فعلهِم موحدةً ، بأنهم قالوا : إنكِ تستاهلينَ هذه الهدايةَ الإلهيةَ ، لأن طيبَتَكِ ورحمتكِ بالناس ، وحُبَّك للخيرِ لا ينقصهما إلا طاعةُ اللهِ ، وكلُّهم يدعون لي بالهدايةِ خُفيةً عني ، وكنتُ حينذاك كما قال الله في كتابه الكريم :
﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾
[ سورة المدثر الآية : 50-51 ]
وأول مَن كان يدعو لي بهذا الخيرِ هو ابني الغالي ، الذي لم يكن يوجِّهُ لي كلمةً مباشرةً بما كنتُ عليه من ضلالةٍ ، احتراما منه لوالدتِه ، ولعلمه الأكيدِ بأني لا أسمحُ لأيٍ كان أن يتَدخَّل في شأني الخاصّ ، وكنت متأكدةً من أنه حزينٌ من أمري ، وأنا الإنسانةُ الأعزُّ عنده في الوجودِ ، وهو يعلَمُ المصيرَ المنتَظَرَ لحالي هذه ، فيدعو اللهَ لهدايتي بينه وبين نفسه ، عرفتُ ذلك بعد أن أصبحَتْ هذه حالي اليومَ ، فأنا أدعو الله من كلِّ قلبي لكل مَن تأخذه تياراتُ أعوانِ الشيطانِ ، ولا يُريد أن يسمعَ نداءَ إنسانٍ عرفَ اللهَ فأنا أدعو أن يعرِفَهُ المحبُّ والعدوَّ ، وكل مخلوقٍ بشري ، ولم تكن فرحةُ زوجةِ ابني بأقلَّ منه بي ، وهي التي أحبَّتْني بكل كيانِها .
2ًـ بدَّلْتُ أشرطةَ الكاسيت المحشوةَ بالأغاني العابثةِ بعواطفِ الضعفاءِ السُفهاء ، وسجَّلت بدلاً منها دروساً دينيةً وفقهيةً ، تُعينُني على معرفةِ ما ينقصني ، وأُساعد بها كلَّ من يرغبُ في التعلَّم من أمورِ الدين، من إِخواني ، وجاراتي ، ومعارِفي ، فجعلْتُ منها سبيلَ خيرٍ، نتداولُه بيننا ونتناقَشُ مضمونَة .
3ًـ أشرطة الفيديو كاسيت التي تحتوي حفلاتِ أعراسٍ كانت تُقام في الفنادقِ وصالاتِ الأفراح ، والتي كنتُ أمارسُ هوايتي في تصويرِ بعضِ فقراتِها ، فبدَّلتُها أيضاً بتسجيل الموادّ التي تتعلقُ بأمور الدينِ ، من علومٍ فقهية ، ودراساتٍ قرآنيةٍ ، وتفاسيرَ ، كي يتسنَّى لمن لديهم قناةً فضائيةً ، أن يستفيدَ منها .
4ًـ وأيضاً هوايتي في مطالعةِ المجلاتِ الفنيةِ ، والقصصِ العاطفيةِ ، بدَّلْتُها بقراءة الكتبِ الدينيةِ ، والتفاسيرِ القرآنيةِ ، وقصصِ بطولةِ الصحابة الأجلاَّء ، وقصصِ الأنبياءِ والرُّسلِ ، فيلمسَ الإنسانُ مدى صعوبةِ تكليفِ الأنبياءِ والرسلِ بإعلاء كلمةِ الله . فيُحسُّ بضآلة حجمه المتعالي ، وبتفاهةِ أعمالِه القيمة بنظره مهما كَثُرت ، مقارنةً بأعمال الأنبياءِ وعذابهم ومعاناتِهم من معانَدَة خصومهم ، ومقارنةً بأعمال الصحابةِ والأولياءِ الصالحينَ .
5ًـ تعلمْتُ القرآنَ وحَفظْتُ بعضَه ، وأدخَلْتُ في رأسي آياتِ الله، بدلاً من كلماتِ الأغاني الرخيصةِ التي كنتُ أحفَظُها وأمارسُ بها هوايتي في الغناءِ ، وحَفظْت من سُور القرآنِ الكريمِ ما لم أكن أحلَمُ بهِ ، ولشدةِ فرحتي ، كنتُ كلَّما حَفِظْتُ سورةَ ، أسجُد سَجدةَ شُكرٍ لله ، على فضلِهِ ، أَحمَدُه عليها بكل كلماتِ الحمدِ التي تعلَّمتَها ، تعبيراً لامتناني لفضلِهِ ومعونَتهِ ، وكلَّما حَفْظت سورةً أقرأُ تفسيرَها وأسبابَ نزولِها في كتبٍ مخصَّصَة ، وكم من فرقٍ شاسعٍ بين من يقرأُ القرآنَ دون فهم ، وبين الذي يرتِّلُهُ مع تَدبُّرِ معانيه ، وقد تبيَّن لي هذا الفرقُ بعد أنْ تعلَّمْتُ أصولَ التلاوةِ ، والتجويدِ ، فشتانَ بين هذا وذاك ، وإن الإنسانَ ليَعيشُ أحداثَ القرآنِ ، من زمانٍ ومكانٍ ، ويتعاطَفُ مع هذا النبيّ ، ويبكي حالَ آخرَ ، بسبب إيذاء المشركينَ له ، ويَرثي الإنسانُ حالَه أمام تهديدِ الله ووعيدهِ للعصاةِ ، ويتعَّرف على رحمة اللهِ للمطيعين كل ذلك من خلال قراءة القرآن بتدبُّر ، فيبدأ بمحاسبة نفسهِ ، ماذا يفعلُ بالتكليف الذي كلَّفه الله به في هذه الحياة ؟ هل وجُد كي يأكلَ ويتسلى وينامَ ؟ ثم يمضي به العمرُ فيوافيَه الأجلُ ، وكأنه شيئاً لم يكن ؟ ، أم وُجِد ليتعرفَ على عظمةِ الخالقِ ويؤمن بوحدانيَّته ، ومن ثم إعلاء كلمتِه والانصياع لأمرِه ، وتنفيذِ سُنن أنبيائه ، ومن ثم النهايةُ الحتميةُ ؟ ، فإما جزاءٌ بالجنان ، وإما عقابٌ بجهنَّم . وعلمْتُ بتوفيقِ الله وبما يسره لي من حفظ من القرآن ، أنَّ اللهَ لا يخيِّبُ من استعانَ به أبداً .
6ًـ أصبحَتْ زياراتي كلُّها لنقلِ ما أتعلَّمُ من أمورِ ديني ، وتطبيقهِ مع الأهلِ والمعارفِ ، ومن أحكامٍ فقهية نحتاجُ إليها في حياتِنا اليوميةِ ، وما يلزَمُ كلَّ إنسان الدرايةَ بها وتطبيقها على شكلٍ صحيح ، وكلُّ همي ينصَبُّ في تقويةِ العقيدةِ في عقولِ الصغارِ قبلَ الكبار، بعد أن كنتُ لهم مثالاً في ابتكار الأزياءِ والموضةِ ، فأحاولُ تبديلَ تلك الشخصيةِ المركَّزةِ في أفكارِهم عني ، وإصلاحَ ما أفسدْتُه طوالَ الزمَن من الجهلِ المتوارَثِ بسبب التقليدِ الأعمى في أصولِ الدينِ والعقيدةِ . والانجراف بتيارِ الأهواءِ ، واتّباعِ الشيطان وأوليائِه ، حتى انعدمَتْ عند بعضِ العائلاتِ عبادةُ الله ، فأصبحوا يعبدون التِلفازَ ، ويُؤَلَّهون مُصممي الأزياءِ والزينةِ والموضةِ ، والمستَحَدثاتِ الإلكترونيةَ المُضَلّلةَ والمضنيةَ للعقلِ والجسم ، فأحاولُ قُصارى جُهدي أن أبيِّن لهم مساوئَ ، ذلك وأذكِّرَهم بخالِقِهم الذي نسوا فَضْله عليهم .
7ًـ أصبحَتْ مكالماتي الهاتفيةُ التي كانت تدورُ ساعات ، وبها أحاديثُ القيلِ والقالِ، وأخبارُ الموضةِ ، وأحاديثُ تافهة ، أصبحتِ الآن للأسئلةِ والاستفسارِ من أهلِ العلمِ والخِبرةِ في أصولِ الفِقه والتشريعِ ، والاطمئنانِ على صحةِ مزاولةِ العباداتِ عند الأهلِ والأقاربِ ، والحثِّ على أفضلِها ، وشحنِ الهمةِ على تنفيذِها ، وكنوعٍ من أنواع صلةِ الرحمِ.
8ًـ بدَّلْتُ ثياب الموضةِ والفجورِ بثيابِ الحِشمة الشرعيةِ ، ووهبْت كلَّ ما كنتُ أملكُ من تلك الثيابِ للمحتاجينَ من العرائِس وغيرِهم.
9ًـ بعد أن كان النوم مبلغَ همي للحفاظِ على حَيويَّتي وشبابي ، أصبح هدفاً للتَّقَوّى على عبادةِ الله ، فتكفيني منه ساعاتٌ قليلةٌ ، أنشَطُ بعدها لمناجاة ربي ، وممارسةِ كلِّ ما يجعله يرضى عني ، وأيضاً الطعام .. كنت أُرضي بالتهامِ أطايبه ذوقي الرفيعَ ، ولما قرأتُ قول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( ما ملأ الإنسانُ وعاءً شراً من معدته ))
فأصبح طعامي لا يهمني إلا لسدِّ حاجتي منه ، كيفما كان أقْبَلُه ، المهم أن لا أُضيِّع وقتاً طويلاً في إِعداد أنواعِه ، فكيف أَضيِّعُ وقتي بطهيِ الأطعمةِ وأبدِّدُه بنومٍ طويل ، وقد عرفْتُ أن أمامي واجباتٍ تجاه الأهلِ والناسِ ، وأنه يلزمُني من الوقتِ الكثيرِ لتعويضِ ما فاتني من العباداتِ ، وكيف يهدأ لي بالٌ وقد علمتُ أن كل إنسان وُجِد على وجه الأرضِ عليه أداءُ رسالةٍ سخَّرهُ الله لها ، ويجب عليه الطاعةُ طوعاً أو كرهاً لتحقيق غاية وجوده ، وبدَّلْت معارفي والشلةَ ، بأهل العلمِ وأولياءِ اللهِ .
10ًـ كنت أتنافس مع أفرادِ عائلتي على لبسِ أحدثِ صيحاتِ الموضةِ ، وأحدثِ تسريحاتِ الشعرِ ، وألوانِ الأصبغةِ التي كنا نتسابقُ في متابعتِها ، فأصبحْنا اليوم وبحمدِ الله نتسابقُ على حِفظ القرآنِ ، ونتنافسُ على مداومةِ قيامِ الليل وباقي العباداتِ ، وكم كنتُ أشعرُ بالغَيرةِ الشديدةِ عندما أعلمُ بأنَّ أختي أو ابنتي سبقتني في حفظِ سورةٍ من القرآنِ، فأُضاعفُ مجهودي لأحصِّلُهَّن ، فبدلاً من كوني أحفَظ صفحتين في اليوم أجعلُهم أربعَ صفحاتٍ وأنا أدعو اللهَ من كل قلبي أن يساعِدَني حتى أَلْحَقَ بهنّ ، أو أسبقُهن أحياناً ، ولله الحمدُ والمنَّةُ .
وكم كان سروري عظيماً عندما لحقَتْني ابنتي بلبسِ الحجابِ، والمداومةِ على قيامِ الليلِ ، والصيامِ ، إلى جانب حفظِ القرآنِ ، وكنا نتبادلُ تسميعَ ما يحفظه كلُّ منا ، ويالها من سعادةٍ .. وفَرح أكبرَ بالتحاقِ بقيةِ أخَواتي بهذه المسيرةِ ، مسيرةُ طاعةِ الله ، وأروعُ ما فيها ذلك التنافسُ والتسابقُ في العباداتِ ، إلهي .. ما أجملَ طاعةَ أمرِك! إلهي .. ما أجملَ حبَّك لعبادِك ! . ما هذا الهناءُ الذي أعيشُه ؟ ما هذا العزُّ الذي أشعرُ به ؟ ما هذا التوفيقُ الذي أَلْمسُه في أيِّ أمرٍ أطلبُه منك ؟! جلَّ ثناؤك . إلهي .. إنك على كل شيء قديرٍ .
11ً – بَدَّلْتُ هوايتي لكتابةِ مذكَّراتي ، ومعاناتي في الحياةِ ، وكتابةِ القَصَصِ التافهةِ، بنَسخ وتلخيص كلِّ ما أقرأُ من كتابٍ قيِّمِ أجد فيه ما يساعِدُني أنا ومن حولي في القضاءِ على جهلِنا ، في كتيِّب صغيرٍ يكونُ عوناً لي على سُرعِة التَّذكُّر .
وأخيراً هداني اللهُ أن أكتُبَ قِصةَ توبتي ورُجوعي إلى خالقِي، وما اعتراني في ذلك من صراعاتِ ، ومن مدٍ وجَزر بين نفسي وفكري، حتى توصَّلتُ بعونِ الله إلى البيانِ الأكيدِ.
وكُلِّي أملٌ ورجاءٌ بالله العزيزِ الحكيمِ أن يجعلَ من قِصَّتي هذه عبرةً يستفيدُ منها مَن كان على شاكلتي ، ويهديَه الذي هداني ، إلى ما صِرْتُ إليه من السعادةِ الحقيقيةِ ، والهناءِ والاطمئنانِ واحترامِ الذات واحترامِ الناس لي ، وأقولُ وبكلّ صِدقٍ أنَّ شخصيةَ المرأةِ المسلمةِ الحقةِ محتَرَمةٌ جداً ، وقويةٌ وذلك بإعلاءِ كلمة اللهِ وإرضائه جداً .
وكم أشعُر بالحُزْنِ عندما أُلاحِظُ أنَّ أكثرَ شبابِنا وشابَّاتنا لا يفقهون شيئاً من أمورِ دينِهم القويمِ ، واستهتارِهم بمبادئِ الإسلامِ القيِّمةِ . فأُحسُّهم في ضياعٍ وحَيرةٍ ، لاْ هُم توصَّلوا إلى إرضاءِ أهاليهم الذين أنشئوهم هذه النشأةَ الخاطئةَ ، ثم يتذمرون من انحرافاتِهم ، وعدمِ طاعِتهم ، ولا هم توصَّلوا إلى طاعةِ ربِّهم ، وأنّى لهم ذلك ولم يَجدوا منْ يعلِّمهم أمورَ دينهم ، ويحثُّهم على تنفيذِها ، فأخذوا يتماوَجون بين أوامرِ الأهلِ وأوامرِ الشيطانِ باضطراباتٍ نفسيةٍ مؤلمةٍ ، يعبِّرون عنها بتصرفاتٍ عدوانيةٍ بإيذاء الغيرِ ، وبالفوضى ، وعدمِ التركيزِ أثناءَ تفريغ شحناتِ طاقاتِهم ، فأشعرُ بالخُسران والهَدْرِ لطاقات فتيَّةٍ فذَّةٍ كان يُمكن الاستفادة منها واستغلالُها بما يُفيد الوطنَ والناسَ ، أُسوةً ببعضِ الشبابِ والشاباتِ الذين تربَّوا على الرادع الديني السليم ، والمبادئِ الإسلامية ، فشكَّل عندهم رادعاً ذاتياً مريحاً ومفيداً .
وأشدُّ ما يُحزنُني أيضاً ، أنَّ أغلَب فتياتنا وبعضَ نساءِنا المسلماتِ يلبَسون الحجابَ مقروناً مع أحدثِ الأزياءِ والإكسسوارات والماكياج ، ويتفننون في طريقةِ وضْعهِ كل فترةٍ بشكلٍ جديد وكأنهم يَملّون من شيءٍ فُرِض عليهم قَسراً .
لماذا ؟ كيف تفَشَّى هذا بين المسلماتِ ، وكيف يَنْقَدْن إلى تنفيذ واتِّباع كلِ ما يوحى إليهن دونَ التمعُّن في الأمرِ ، ومعرفةِ المبْتَدَعِ ومحاربتهِ باستنكارِ بِدعَتِه ، بَدَلَ ترويجِها ، وكلَّما وجَّهْتُ ملاحظةَ أو نصيحةً في هذا الأمر ، أسمع جواباً موحَّداً : ( كله هيك أحسن من بلا).
ما هو الذي أحسنُ من بلا ؟! أينَ الهدفُ من ذلك اللباسِ ؟ أين إرضاءُ الله في تشريعهِ ؟ أين حبُّ الله ؟ أين الخوفُ من الله ؟ أم كان الهدفُ إرضاءَ الناسِ وتخريسَ ألسِنَتهم بشكلٍ يُرضي الجِهَتَين ؟. إذا كان الأمرُ كذلك فأَرْجوهم رجاءً حاراً بأن لا يشوِّهوا دينَ اللهِ لإسكاتِ عبادهِ على حسابِ دينهِ ، لا أحدَ على وجه الدنيا يستأهل أن نرضِيه قَبل الله ، لأن جزاءَنا وعقابَنا منه ، ورجوعُنا إليه جلَّ وعلا ، فكيف نُرضي بشراً مخلوقاً ونستهينُ بإرضاءِ الخالقِ !!..
وتلك الفتياتُ اللواتي يلبَسن مع الحجابِ بنطلونَ الجِينز ، والكُمَّ القصيرَ ، والصدرَ المكشوفَ ، والمكياجَ الصارخَ ، ويَضعْن تلك القِطعةَ من القماشِ بألوانٍ زاهيةٍ جميلةٍ ، وبطريقةٍ تَزيدُهُنَّ جمالاً ، وكأنّهنَّ يتحدَّينَ بذلك السافراتِ ويتنافسْن معَهن على إبرازِ ما لديِهنَّ من جمالٍ وفِتنَةٍ ، وأشدُّ ما يَغيظُني أنهنّ يُسَمونه حِجاباً ، مع أنَّ اسمَ الحجابِ دليلٌ واضحٌ لمعناه ، بأنه يَحجبُ مفاتنِ المرأَةَ عن أعيُنِ الرجالِ ، فما الذي حَجَبه ذلك الذي يسمونَه حجاباً، وهو في الواقع تقليعة !!.
كيف الوصولُ إلى إرضاءِ اللهِ ، لرفعِ مقتِهِ وغَضَبِهِ ، مع هذا الاستهتارِ ؟! وكلَّما أُشاهُد هذا الذي أصبح – كله هيك – متفشياً ، أَشْعُر بقلبي يتمزَّق أسىً ، لهذا التسيُّبِ والاستهانة بأمرِ الله ، خاصةً من الأهلِ الذين أُحسُّ بفرحِهم ورضاهم بأن بناتِهن ملتزماتٌ بدينِهنَّ وعلى أحسنِ ما يُرام ، وكيف يكون – أحسن من بلا – وهو في منتهى الإِغراء وإظهارِ جميع أَجزاْء الجِسم وبشكلٍ أشدَ للفتنةِ ، ولفتِ نظر الشبابِ ، والتشبُّه بالرجال ، ألا يعلَمْن أن اللهَ لعن المتشبهاتِ بالرجال ؟ على من يضحكون ؟ ومِنْ مَن يسخرون ؟! وبِمَ يستهترون ؟ ألا يقرؤون قوله تعالى :
﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾
[سورة البقرة الآية : 85]
وشيء آخر يؤلمني جداً ، هو تواجد كثيرٍ من المحجبَّات في أماكنِ المعصيةِ والفسادِ، أجِدُهنَّ في الحفَلات العامةِ للرقصِ والغِناءِ ، يتمايلون ويُصفِّقون طَرَباً وإِعجاباً بلا أدنى حياءٍ واحترامٍ لما يَحمِلْن من رمزٍ للإسلام ، وكم شعرتُ بالحرجِ أمام زوجةِ ابني الأجنبية المسلمةِ ، قالت لي وقد شاهدَتْهم على شاشةِ التلفزيون :
أهؤلاءِ مسلماتٌ ؟! كيف يفعلن ذلك ؟ ألا يعرفون دينَهم ؟! ولماذا يضعون الحجابَ إذا رَغبوا بهذا الفعلِ ؟! وقالتْ لي أيضاً قولاً جعلني أتمزَّق خجلاً وحَزناً .. قالت :
لقد أتيتُ إلى بلد إسلامي فَرِحةً بأنني تركْت بلدي ، بلدَ الفجور والكُفرِ ، وظننْتُ بأنني سأعيشُ في وسَطٍ ديني وبيئةٍ إسلامية بحتةٍ ، ولكن صُدِمْت بأجواءَ ومشاهدَ لم أكن أتوقَّع مُشاهدتَها في هذا البلدِ الإسلامي إطلاقاً ، حتى أنَّ أهل بلدي يتميَّزون ببعض مَيِّزاتٍ جيدةٍ عنهن.
ماذا أسمعُ يا إلهي !؟ رُحماك ، ومِن مَن؟! يا إلهي ، عَفوَك ، وعن مَن ؟! يا إلهي .. غفرانك ..
وأولاءٍ اللاتي لا يفوتُهن نوعٌ من أنواع السَمَر العديدةِ ، حتى النوادي الليليةُ والملاهي يؤمُّونها ، وبَعضُهن يَضَعْن على رؤوسهن بدلاً من الحجابِ ، طاقيةً مُزَيَّنةً بأنواع اللُؤلُؤِ والألماس الباهظِ الثمنِ ، يَبرقُ ويلمَع وكأنَّه ينادي وبصوتٍ عالٍ : نحن هنا ، انظروا إلينا .. وأحياناً يضعون كطرحةٍ العروسِ ليلةَ زَفافِها ، فيزيدهنَّ رونَقاً وأناقةً يرضين شهوتهم، ولكن في عُيون الآخرينَ لا يزيدهنَّ هذا إلا مقتاً واستِغراباً ، وأنا أول من شعر بذلك ، عندما كنت قبلَ أن يعافيني الله .
وكنت أتواجد فيه ، وقد شاهدتُ تلك المناظرَ المُؤلمة ، وكنت أقول في نفسي ، ما الذي أتى بمثلِ هؤلاء لهذا المكان ؟!! ألا يحترمن الشعار الذي يحمِلْنَه على رؤوسِهن ! وكؤوسُ الخمرِ مصفوفةٌ على طاولة الطعامِ أمامَهن !! ولا مانع عند بعضِهن من مجاراةِ الجُلساء ببعض الرشَفاتِ من الخمرِ أو البيرةِ التي يَزعُمونَ أنها ليسَتْ محرَّمةٌ !! فأنظر لهنّ بازدراءٍ ومقتٍ ونفورٍ لأنهُنَّ سيصبحْنَ قدوةً لكثيرٍ غيرِهن ، وتنتشرُ هذه البدعةُ السيئةُ ، وفعلاً لم تَمضِ فترةٌ قصيرة من الزَمَن حتى أصبحَت هذه البدعَةُ ظاهرةً متفشيةً فعمَّت أغلبَ البلدانِ، ويَصعُب حَصْرها والقضاءَ عليها إلا برحمةٍ من الله .. بهداه .
ألم يَعْلَمْنَ بأن يداً خفيةً تلعبُ بعقيدتهنَّ الإسلاميةِ ؟ ألم يلمِسْنَ بأن هناك من يشوِّه أفكارَهنَّ ومعلوماتهنّ عن دينهنّ ؟! ألم يُحسِسْنَ بأنهنّ يساعِدْن أولئك المغرضين ؟.
آه .. ليتهنّ بَحَثْنَ قليلاً مع أنفسهنّ ، وحاولْنَ أن ينظرْن إلى أبعد من أنوفهنّ ، فتنكشف لهنّ حقيقةٌ مُرَّةٌ ، لو أنهنَّ يُقوّيْنَ عقيدتهنَّ وإيمانهنَّ بربِّهنَّ ، ويتعرَّفنَ عليه جيداً .. لَعَلِمْنَ أنَّ هناك مَنْ أَعماهُنَّ عن صُلب دينِهنَّ الذي يجهلْنَ ، ولَعلمْن بأن عليهنَّ اتباع الله وحده لا شريك له ، وأنهنَّ لم يتبعْنَ بهذا السلوك الخاطئ إلا أولياءَ الشيطانِ بكل خُطاهم ومخططاتهم ، ألا وهم مصمّموا الأزياءِ ، ومُرَوّجوا أنواعِ الزينةِ والماكياجِ ، والمتبجِّحون باسمِ الإتكيت والبروتكول ، وتُجَّار الحفَلات والسهر والمُجون ، وأولئك يشكِّلون أكبرَ عصابةِ تخريبٍ للأديان ، وللمجتمعِ ، وها هم وقد صمَّموا لك أزياءَ خاصةً للمحجبات ، ودعوكِ إلى سهرةٍ بإعلان مغرٍ يسيلُ له لعابُ الضُعفاءِ ، فتشتهي نفسُكِ بعد أن اشتريت لها تلك الأزياء والإكسسوار البديع ، تشتهي أن تلبَسيها وتحضري تلك الحفلاتِ المُعْلَنةِ بإغراء ، وهناكَ لا مانعَ من مشارَكَةِ الناس مجونَهم وفجورَهم ، فتكوني بذلك قد تجرَّدْتِ من ديِنكِ وتخلَّيتِ عنه ، وأنتِ تتوهمْينَه بلبسِ شعاره !!… وقلبُك فارغٌ من الخوفِ من الله، لأن الشيطانَ قد زيَّن لك أعمالَك ، فأخْبَتَ خوفَ الله في قلبك ، وأوهَمَك برضى الله عنكِ ما دُمْتِ تُحافظين على حَمل شعارِ دينِه فقط ، فاحذَريه يا أختي المسلمةَ وتنبَّهي من شياطينِ الإنسِ والجنِ ..
كم أتمنى أن أُوصِلك إلى أعماقي ، وتلمَسين مدى شعوري بالحُزْن والخَجَل من كل ما فرطْتُ بجنب الله ، كم أتمنى أن أتوصَّلَ إلى إقناعِكِ بأنَّ السعادةَ الحقَّ لم أحسَها وأعشْها إلا في طاعةِ اللهِ ، رحمةً بكِ وخوفاً عليكِ من مصيرٍ مخيفٍ .
يا أختي المسلمة .. لم نُخْلَق للَّهوِ واللعبِ والتسالي ، وإرضاءُ النفسِ والناسِ غايةٌ لا تُدرَك ، ليتَك تتوصَّلينَ إلى ما توصَّلتُ إليه من مُتعةٍ حقيقيةٍ ، وهناءٍ أكيد ، وسرورٍ دائم مع الله ، لعلك تقولين :
إنني قد شَبعْتُ من هذه الأمورِ الدنيوية ، بعد أن عِشْتُها عدةَ سنوات .
أجيبك : بأنني لم أَدَع أمورَ الدنيا زهداً فيها أو مَلَلاً ، بل على العكس ، لقد كنتُ في أوجِ نشاطي لممارسةِ حياتي التي تملَّكَتَها العادات السيئةُ بأنواعها ، وما أصعبَ الرجوعَ أو تركَ عادةٍ تملَّكَتْ صاحبَها وأحاطتْ به ، ومن ضِمنها عادةُ التدخين التي تملَّكتْني وتمكَّنَتْ مني ربع قرن !. ولكن التضحيةَ في سبيل إرضاءِ الله كلَّما صَعُبت زادت مُتْعَتُها ، ومن يستعينُ بخالقهِ يَصنع العجائِب ، وبحمد الله وعَونِه ، تخلَّصْت من جميعِ تلك الممارساتِ والعاداتِ السيئةِ بشِقِّ النفس ، ولكنَّها هانت عَليَّ لأنها في سبيلِ اللهِ ، وأخشى ما أخشاه من نفسي أن ينتابني أدنى حنينٍ إلى عاداتي السيئةِ ، فأنا أتصارعُ معها حتى تبقى على ما روَّضتها على تركِه والتخلصِ منه ، ويملأني الرعبُ من حرماني تلك النعمةَ التي أعيش غارقةً في مُتعتها ، والتي أرجو الله أن يُذيقها لكل مسلم ومسلمة ، فأجدني أدعو اللهَ في كل وقتٍ عَلمْت أنه أسرع للإجابة ، وأتوسَّل إليه بأن يُعينني على الثباتِ في الأمر .
إنّكِ تعلمين جيداً بأن شهواتِ النفسِ لا حدودَ لها ولا نهاية ، وكلما بلغَتْ غايةٌ ، تمنَّتْ أُخرى وهي تقول : هل من مزيدٍ . والسببُ معروفٌ، لأن أستاذ النفسِ الشهوانيةِ لم يَمُتْ .. ألا وهو إبليسُ اللعين !. فوهَبنا اللهُ العقلَ لردعه ، ودعانا إلى دار الإسلام
أمنيات :
إنني الآن أُعِدُّ نفسي للقاء ربي ، وأتزوَّد لسفرٍ طويل ، وكم أحمَدُ الله لأنه أبقاني على قيدِ الحياةِ حتى أستطيعَ تعويضَ ما فاتني من عبادتهِ، ولم يُمِتْني على ضَلالتي ، ولكنْ أنّىَ لي أن أَبْلُغَ مرادي ولم يبقَ في العُمر أكثرُ مما مضى !. والزادُ من العلمِ والعملِ يحتاجُ إلى أضعافِ ما مضى .
وكم بَكيتُ حَسرةً ولَوعةً على كلِّ ثانيةٍ أضعْتُها من عُمُري بعيدة عن الله ، فأنا أتسابقُ الآن مع الزَمنِ ، وانتفَضْتُ كاللبوةِ الكاسرةِ ، وقد تحوَّل نَهمي الكبير في تحصيلِ مُتَع الحياةِ إلى نَهَمٍ في تحصيلِ كلِّ العباداتِ ، وأنا أَجري جَرياً مُضْطَرباً ، لا أعرِفُ من أين أبدأُ ، ولا كيف أَهدأ ؟ وما يلزمني كثيرٌ وما يَنقصني أكثرُ ، كلُّ شيءٍ من علوم ديني جديدٌّ عَلَيّ ، وحاجتي إليه ماسَّةً ، أتخبَّط بينَ كلِّ الجهاتِ ، أريدُ أن أُحَصِّل من كل الخيراتِ ، كي أُعَوِّض ما فات ، ولأنَّها كلُّها تلزم الإنسانَ بعد المماتِ ، من تعلُّمِ تلاوةِ القرآن ، وأحكامِ التجويد ، وتفسيرِ آياته ، وحفظ سُوَرِه ، وآداءِ أهمِّ فريضةٍ بعد فريضة الصلاة ، حضورُ مجالسِ العلم وهو من أضرِّ الضرورات ، لأنه لا عبادةَ سليمةً وصحيحةً بدون علمٍ ، وكم أرجو المولى عزَّ وجل أن يمنَحني فُرصَةً كافيةً لتحصيل أكبرِ قَدرٍ من الزّادِ ، ومن أحب لقاء الله ، أحبَّ الله لقاءَهُ ، فاكتب لي يا إلهي زيارةً إلى بيتِكَ الحرامِ .. فكيف أُضَيِّع لحظةً من عُمري ، وأَهدرُ ثانيةً من حياتي دون أن أعملَ شيئاً يُفيدني لآخرتي وأنا التي تسألُ اللهَ آناء الليلِ والنهار أن يُبَلِّغني الفردوسَ الأعلى ، الفردوس الأعلى !!.
أرجو اللهَ أن يُبلِّغها لكل متمنّيها ، آمين .. ويعينَه على الوصولِ إليها ، ولن يكونَ إلا بعملٍ دائبٍ في مرضاة اللهِ ، لأن ثَمَنَها غالٍ ، وباهظٍ جداً ، واللهُ وحده الهادي والموفقُ والمعينُ ، ومن طلَب العُلى سَهِر الليالي ، فلم يَعُد هناك أيُّ مجال لتضييع لحظةٍ من العمرِ سُدىً .
لقد كان دأبي فيما مضى ألاَّ ألبسَ إلا أشيكَ الملابسِ ، ولا آكلَ إلا أطايبَ الطعامِ ، ولا أدخلَ إلاَّ أفخَرَ الأماكنِ ، ولا أتعاملَ إلا مع أرقى الناسِ ، وكل هذا في دنيا فانيةٍ زائلةٍ لا محالة ، فكيف أقْبَلُ من أجلِ حياة أبديةِ بالقليلِ اليسير مِن إله عظيمٍ قدير ؟! فهل يقبلَ أحداً منا أن يدعوَه ملكاً إلى وليمةٍ فاخرة ، وعندما يحضُر ويدخُل قصرَه يقدَّم الملك لغيره من المدعويين أطايبَ الطعامِ ، ويُقدَّم له طَبقاً من أدنى أنواع الطعام ؟!. كم سيحس بالانكسار والقهر !!. حلل ، تصل …
الحمد للهِ الذي جعل لنا التوبةَ والاستغفارَ لتطهرَنا من الذنوب والمعاصي ، الحمدُ لله على هذه الرحمةِ العظيمةِ من مولاً عظيمِ ، عزيزٍ حكيمٍ ، لطيفٍ حليمٍ .. رؤوفٍ كريمٍ .
وفجَّرَتْ توبتي في أعماقي نَهَماً كبيراً للعبادة بكلِّ أنواعها وعلى أحسنِ وجه ، وأحسسْتُ بتعطُّشٍ وجوعٍ هائلٍ لمعرفةِ أصولِ العبادةِ ، ومَثَلي كمثلِ مريضٍ أُصيب بمرضٍ عُضالٍ فشفاهُ اللهُ بعد أن حُرِم بسبب هذا المرض من كلِّ ما تشتهي نفسه سنوات عديدة ، وفعلاً كنتُ محرومةً هذه السعادةَ الحقيقيةَ التي أعيشُها الآن ، فلم يعُد لساني يَسْكُت ويَفْتُر عن ذكرِ الله ، من تسبيحٍ ودعاءٍ ، وقراءةِ الأورادِ ، ومراجعةِ ما أحفَظ من القرآن الكريمِ ، ولا يهدأُ تفكيري في عظَمَةِ الخالقِ في أيِ شيءٍ تقعُ عيني عليه ، وأيَّ طعامِ آكلُه ، ولم أَعُدْ أتوانى عن أي نوعٍ من العبادات، ولم يعد يكفيني الكثيرُ ، بل أرغب بالأكثرِ ، ولم يعد لدي شيءٍ عزيزاً غيرُ حب الله ، والتقرُّبِ إليه ، الذي أُحس بأنه يطوِّقُني بحنانهِ ، ويغمرني برحمتِهِ ورأفته ، ويملأ قلبي حبَّه وحب كل من يحبه ، لم أعد أحبُّ إلا بالله ، ولا أكره إلا به ، أحاطني بعونِه وكرمه ، لا أريد إلا عبادتَه ، ولا أتمنَّى إلا رضاه ومحبتَه ، جلَّ وعلا إنه أرحم الراحمين .
والحمد لله رب العالمين
المصدر : موسوعة النابلسي