القواعد الوقائية للعفة .. غض البصر
فإن أكثر ما تدخل المعاصي على العبد منه هو نظراته ولحظاته، والنظرة هي رائدة الشهوة ورسولها، ومن أطلق بصره أورد نفسه موارد الهلكات، فغضُّ البصر أصل حفظ الفرج، قال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾([1])، وإذا غضّ العبد بصره غضّ القلب شهوته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : «فجعل سبحانه غض البصر، وحِفظُ الفرج هو أقوى تزكية للنفوس».
ومن آفات النظر أنه يورث الحسرات والزفرات، فيرى العبد ما ليس قادرًا عليه، وهذا أعظم عذاب، وإنها تجرح القلب جراحًا لا يشفى منه إلا بالعظة والتوبة.
وصدق رسول الله ﷺ حيث شبهه بالسهم القتّال فقال: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غضّ بصره عن محاسن امرأة لله، أورث الله قلبه حلاوة إلى يوم يلقاه»([2]) فهي إن لم تقتل القلب جرحته.
وعن أبي هريرة ﭬ، عن النبي ﷺ قال: «كُتِب على ابن آدم نصيبه من الزنى، فهو مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنّى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه»([3]).
يقول ابن القيم تعليقًا على هذا الحديث: « فبدأ ﷺ بزنى العين؛ لأنه أصل زنى اليد والرجل والقلب والفرج»([4])، فمن أطلق بصره فلا يأمن أن يصدّق ذلك فرجه فيهلك، وكما قال الشاعر:
كـل الحوادث مبدؤهـا من النظــر ومعظم النار من مستصغر الشــرر
والـمـــــرء مـــا دام ذا عـــين يقلبـهـــا في أعين الغير موقوف على خطــر
كــــم نظــــــرةٍ فـعــلـــت بصاحبــهـــا فعــــل الـســـهـام بلا قــوس ولا وتـــر
يســــــر مقلــتــه ما ضـــرّ مهجتــــــــه لا مرحـبـًا بســـرور عـــــاد بالـضــرر
والنفس المؤمنة تظل بطبيعتها هادئة وادعة ما لم تتعرض لما يهيج ويثير غريزتها، والنظر هو أوسع باب لتلك الإثارة والتهييج، فكأن الذي يطلق بصره في مواطن الفتنة قد أوقد في نفسه شعلةَ الهوى والشهوة، قال ابن حزم رحمه الله :
لا تتبـع النفــــس الــهــــوى ودع التـعـــرض للــفــــتـن
إبليـــــسُ حــــيٌ لــــــم يـمــــــت والعـــيـن بــــابٌ للــفــــــــتن
ومن هنا جاء تحذير الإسلام ترهيبًا من هذا الباب من أبواب الشر فقال جل وعلا: ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ ([5]) .
وقال ﷺ :«يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الأخرة»([6])، فالسيئات تتوالى على صحيفة الإنسان بعد النظرة الأولى.
وعن عبادة بن الصامت ﭬ، أن رسول الله ﷺ قال: « اضمنوا لي ستًا من أنفسكم، أضمن لكم الجنة، اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدّوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضّوا أبصاركم، وكفوا أيديكم» ([7]).
وقال جرير: سألت رسول الله ﷺ عن نظرة الفجاءة، فقال: «اصرف بصـرك»([8])، وعن ابن عباس في قوله تعالــى: ﴿ يَعْلَم خَائِنَة الْأَعْيُن ﴾ ([9])، قال: الرجل يكون في القوم فتمر الـمرأة، فيريهم أنه يغض بصره عنها فإن رأى منهم غفلة نظر إليها، فإن خاف أن يفطنوا غض بصـره،وقد أطلع الله عزوجل من قلبه أنه يود أنه نظر إلى عورتها»([10]).
ومن هنا وجب على من يريد أن يسد الباب من أوله أن يغض بصره ويصبر على ذلك، فالصبر على الشهوة أهون من الصبر على عذاب الله، فمن لم يصبر عن شهوته فكيف سيصبر على عذاب الله؟!
وفي غض البصر عدة منافع ذكرها ابن القيم في كتابه الشافي «الجواب الكافي» حيث يقول :
الأولى: أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده.
الثانية: يمنع من وصول أثر السهم المسموم ــ الذي قد يكون فيه هلاكه ــ إلى قلبــه.
الثالثة: أنه يورث القلب أنسًا بالله، وجمعيةً عليه، فإن إطلاق البصر يغرق القلب ويشتته ويبعده من الله، ويورث الوحشة بين العبد وربه.
الرابعة: أنه يقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه.
الخامسة: أنه يلبس القلب نورًا ، كما أن إطلاقه يلبسه ظلمــــــة، ولهذا ذكــر اللـــه ــ سبحانه وتعالى ــ آية النور عقب أمره بغض البصر ، قال: ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ ([11]) ، ثم قال أثر ذلك: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ﴾ ([12]) ، أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه، وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية.
السادسـة : أنه يورث فراسةً صادقةً يميز بها بين الحق والباطل، قال شجاع: «مَـنْ عَـمَّـرَ ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغضّ بصره عن المحارم، وعف نفسه عن الشبهات، واغتذى بالحلال، لم تخطئ له فراسة»، فالله ــ سبحانه ـ يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، ومن ترك لله شيئًا عوضّه الله خيرًا منه، فإذا غضّ بصره عن محارم الله عوضّه الله بأن يطلق نور بصيرته عوضًا عن حبسه بصره.
السابعة: أنه يورث القلب ثباتًا وشجاعة وقوة، كما في الأثر: «الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله».
الثامنة: أنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب، فإنه يدخل مع النظرة ويمثل صورة المنظور له ويزيّنها ويجعلها صنمًا يعكف عليه القلب.
التاسعة: أنه يفرّغ القلب للفكر في مصالحه والاشتغال بها، وإطلاق البصر ينسيه ذلك ويحول بينه وبينه، فينفرط عليه أمره، ويقع في اتباع هواه وفي الغفلة عن ذكر ربه، قال تعالى: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾([13]) ، وإطلاق النظر يوجب هذه الثلاثة أمور.
وكل ما سبق ذكره في غض البصر ينطبق على النظر للشاب الجميل الأمرد إذا كان النظر إليه بقصد الالتذاذ وكان يثير الشهوة، والمسلم التقي هو الذي يحتاط دائمًا لدينه وخلقه ويتقي مواطن التهم، ولا بأس بالنظر إذا كان للبيع والشراء والتعليم والتطبيب([14]).
———————————————
([2]) أخرجه الطبراني في الكبير (10 / 173) (10362) عن عبدالله بن مسعود ﭬ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 63): «رواه الطبراني، وفيه عبدالله بن إسحاق الواسطي، وهو ضعيف».
([3]) أخرجه البخاري (6243)، ومسلم (2657)، عن أبي هريرة ﭬ.
([6]) أخرجه أبو داود (2149)، والترمذي (2777)، وأحمد (5/ 353)، عن بريدة ﭬ، وحسنه الألباني.
([7]) أخرجه أحمد (5/ 323)، والحاكم (8066)، والبيهقي في الشعب (4802)، عن عبادة ابن الصامت ﭬ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1018).
([8]) أخرجه مسلم (2159)، وأبو داود (2148) ، عن جرير ﭬ.