القواعد الوقائية لبناء العفة |الصحبة الصالحة
ولعلها أخطر الوسائل وأنفعها؛ ذلك لأن الرفقة والصحبة لهما الأثر الواضح في سلوك الفرد، بَـيَّـن ذلك قول رسول الله ﷺ: « الـمرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» ([1]) .
وقيل في الأشعار :
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
فالاقتداء هنا يصح على الإصلاح والإفساد، فإن الشاب إذا كان ضعيف الشخصية، متميع الخلق، بليد الذهن، هش العقيدة، فسرعان ما سيتأثر بصحبة الفساق وستظهر عليه أماراتهم وعادتهم القبيحة، حتى تصبح هي عاداته وملامحه وطباعه فيصعب عليه الانفكاك منها بعد ذلك. وكثيرًا ما يتم ذلك أثناء السفر في العطلة الصيفية حيث الغربة والبعد عن رقابة الأهل وسهولة الحصول على المنكر، ومرافقة أصحاب السوء صباحًا ومساءً، وكم من أناس ذهبوا طاهرين عفيفين ورجعوا فجارًا فاسقين، بل وأفسق ممن دلّهم على الفسوق..!! وصدق الله العظيم إذ قال: ﴿ﭑ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ ([2]) .
ومن هنا تظهر أهمية وخطورة وضرورة مصاحبة الأخيار ممن طهرت أخلاقهم، واستقام نهجهم، وحسنت سيرتهم، أولئك الذين إن نسي أحدهم ذكّروه، وإن غفل وعظوه، وإن أخطأ لم ييئسوه، مجالسهم تحفها الملائكة، وألسنتهم لله ذاكرة، وقلوبهم بالإيمان عامرة، يزداد المرء بمجالستهم علمًا، وبمخالطتهم طهرًا، وبملازمتهم طمأنينة وأنسًا في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ ([3]) .
وقال ﷺ : «لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي»([4]).
وقال عيسى ڠ: «جالسوا من تذكركم بالله رؤيته، ومن يزيد في علمكم كلامه، ومن يرّغبكم في الآخرة عمله»، وقال أحد السلف :«اصطفِ من الإخوان ذا الدين والحسب، والرأي والأدب، فإنه ردءٌ لك عند حاجتك، ويـدٌ عند نائبتك، وأنسٌ عند وحشتك، وزينٌ عند عافيتك».
فوجب على الشاب العازم على سلوك طريق الاستقامة أن يبحث عن هؤلاء بحث المضل لضالته، فإن وجدهم ــ وهم ولله الحمد لا يخلو منهم مسجد ــ فعليه ألا يفرّط بصحبته أبدًا، وأن يلتزمهم بكرةً وعشيـًا، وليعلم أنهم نعمة من الله غالية، فليحفظها إن أراد الكرامة في الدنيا والنجاة في الآخرة.
وهذه وصية عمر بن الخطاب ﭬ: «عليك بإخوان الصـدق، فعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء».
ومن هنا تظهر الأخوة الإسلامية كأساس من أسس الصلاح والفلاح ، وتبرز غايتها النبيلة التي ذكرها الدكتور فتحي يكن بقوله: « فالأخوَّة في نظر الإسلام وسيلة من وسائل التعاون على الطاعات، والتذكير بالله والتواصي بالحق والتواصي بالصـبر»([5]).
لذا فإن الأخوة الإسلامية تعتبر ركنًا أساسيًا من أركان العمل الإسلامي يقوى بقوته ويضعف لضعفه، وما زال الشباب المسلم تربطهم ببعضهم البعض المحبة في الله والمودة والتراحم والتعاطف والألفة، يظلهم في ذلك حديث رسول الله ﷺ : «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيّون والشهداء… حُقَّـتْ محبتي للمتحابين فيَّ، وحُقَّت محبتي للمتزاورين فيَّ، وحُقَّت محبتي للمتباذلين فيَّ، وحُقَّـت محبتي للمتواصلين فيَّ »([6]) .
ضوابط العلاقة الأخوية:
ولكن.. مع ما للأخوة من مكانة سامية، وشرف رفيع، فقد يسيء بعض الشباب فهمها، وقد تجنح بهم العاطفة إلى إفراط في المحبة، وخاصة أن الشباب هو سن العاطفة والمشاعر والأحاسيس الجياشة ؛ لذا لزم أن تُضبط هذه العلاقة بضوابط تحفظ لها سموها ونقاءَها ومنها:
1 ــ أن يحب المرء لا يحبه لذاته وشكله ومظهره ، بل إلى ما يناله منه من حظوظ أخروية([7]) ، وبقدر ما يقربه إلى الله كحب التلميذ للمعلم؛ لأنه يتلقــى منه العلم، وكذلك يحبه بقدر طاعته وقربه من الإسلام، وهذا ميزان شــرعي لأوثق عُرى الإيمان وهو «الحب في الله والبغــض في اللـه »، وبذلك تسـمو غايــة المحبة وهدفها إلى أعلى المراتب. وهذا يتطلب تجرّدًا وإخلاصًا في نفس الشاب المسلم.
2 ــ الأخوة الإسلامية هي العلاقة الطبيعية الفطرية التي لا تجنح جنوح (العشق) ولا تبلغ مبلغ (الوله والتيم) بل ينبغي ألا تصل حد ذوبان المحب بالمحبوب؛ لأنها إن وصلت إلى هذا الحد فستفقد بدون شك ضوابط الصيانة الشرعية، وقد تخالطها ــ بقصد أو بغير قصد ــ أحاسيس ودوافع بشرية خفية مغلفة تتساقط أغلفتها على الزمان، ويقع ما لم يكن بالحسبان، والعاقل من تدارك الأمر قبل فوات الأوان. ورحم الله امرءًا عرف حدود الشرع فالتزمها، وعرف حدود نفسه فوقف عندها.
3 ــ من هنا كان على المتاحبين في الله أن يتقوا الله في كل خاطرة من خواطر أنفسهم، وأن يقعّدوا أخوتهم وفق تصور الإسلام ومفهومه، وأن يكونوا صرحاء مع أنفسهم، وليلجموا العاطفة بلجام العقل، ولينيروا العقل بهدى الإسلام، وإياهم والترخص في الصغائر فإنها طريقهم إلى الكبائر.
4 ــ إن قلوب الدعاة ينبغي أن تبقى معابد لا يُعبد فيها غير الله ، يحذروا من الشرك فإن دبيبه خفي وأثره قوي. ولتكن أخوة الرسول مع أبي بكر ﭬ قدوتهم ومثالهم والتي لم تمنع رسول الله ﷺ أن يقول : «لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلاً لا تخذت ابن أبي قحافة خليلاً»([8])، وليذكروا قول أحد الصالحين وقد بلغ الستين من العمر قال: «وقفت على باب قلبي أربعين سنة حتى لا يدخله غير الـلــه»([9]).
———————————————-
([1]) أخرجه أبو داود (4833)، والترمذي (2378)، وأحمد (2/ 303) عن أبي هريرة ﭬ، وحسنه الألباني.
([4]) أخرجه أبو داود (4832)، والترمذي (2395)، عن أبي سعيد الخدري ﭬ، وقال الترمذي: «غريب»، وحسنه الألباني.
([5]) مشكلات الدعوة الداعية، ص 209 .
([6]) أخرجه أحمد (5/ 239)، عن عبادة بن الصامت ﭬ، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (4577): «رواه أحمد بإسناد صحيح».