القواعد الوقائية لبناء العفة | المجاهدة وتقوية الإرادة

فالنفس مجبولة على حب الهوى ([1]) فإن تركت هملاً من غير محاسبة ولامجاهدة ولا مخالفة لهواها فسدت، قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾([2])، خاب من دسـاها: دساها أي أخملها حتى ركب المعاصي، وترك طاعة اللــه عزوجل  ([3]).

قال الحسن : وإنما يثقل الحساب يوم القيامة على الذين جازفوا الأمور في الدنيا اتخذوها على غير محاسبة  فوجدوا الله عزو جل قد أحصى عليهم مثاقيل الذر، ثم قرأ : ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾([4]) .

وعن الحسن في وصية لقمان لابنه : « يا بني إن الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس حرون، فإن فتر سائقها ضلت عن الطريق ،وإن فتر قائدها حرنت، فإذا  اجتمعا استقامت. إن النفس إذا أطمعت طمعت وإذا فوّضت إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله حملت، وإذا تركت الأمر لها فسدت، فاحذر نفسك واتهمها على دينك وأنزلها منزلة من لا حاجة له منها ولابد له منها، وإن الحكيم يذل نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق، وإن الأحمق يخيّر نفسه في الأخلاق، فما أحبت  منها أحب، وما كرهت منها كره»([5]).

«والمجاهدة من سبل تقوية الإرادة ، والمفروض في الإرادة في الإنسان السوي أن تأتيها الأحكام والتعليمات والتوجيهات والقوانين من الفكر، وأن تقوم هي بدور سلطة الآمر التنفيذي، وعلى مقدار استقامة الإنسان في سلوكه  نستطيع قياس مقدار قوة إرادته، وعلى مقدار انحرافه في سلوكه وتخبطه مع أهوائه وشهواته ونزواته وغرائزه نستطيع قياس مقدار ضعف إرادته؛ لأن أهواءه وشهواته وغرائزه هي التي ركبت إرادته وجعلت تسوقها إلى تحقيق مطالبها مسخرة كل طاقاته ومنفقة كل أوقاته في ذلك»([6]).

وسائل تقوية الإرادة  :

الوسيلة الأولى: التفكر في أن الإنسان لم يخلق للهوى، وإنما خلق للعبادة والعطاء والنظر في العواقب، أما انغماسه في الهوى فإنه من طبائع البهائم، قال تعالى: ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ﴾ ([7]) .

الوسيلة الثانية: أن يفكر في عواقب الهوى فكم قد أفات من فضيلة، وكم قد أوقع في رذيلة، وكم من زلة أوجبت انكسار جاهٍ وقبح ذكر مع إثم.

الوسيلة الثالثة: أن يتصور العاقل انقضاء غرضه من هواه، ثم يتصور الأذى الحاصل عقب اللذة فإنه يراه ليربي على الهوى أضعافًا، وقد أنشد بعض الحكماء:

أفضل الناس من لم يرتكب سببًا             حــتـى يـمــيز ما تجنــي عواقبــه

والوسيلة الرابعة: أن يتصور ذلك في حق غيره ثم يتلمح عاقبته بفكره، فإنه سيرى العيب واضحًا بَـيِّـنًـا، فالإنسان بطبيعته يرى عيوب الآخرين ولا يرى عيبه.

الوسيلة الخامسة: أن يفكر في معايب ذلك الهوى وسوءاته فسينفره ذلك منه، قال ابن مسعود ﭬ: «إذا أعجبت أحدكم امرأة فليذكر مناتنها».

الوسيلة السادسة: أن يتدبر عزّ الغلبة، وذلّ  القهر، فإنه ما من أحد غلب هواه إلا أحس بقوة وعز، وما من أحد غلبه هواه إلا وجد في نفسه ذلاً وقهرًا، وفي قهر الهوى لذة تفوق كل لذة.

الوسيلة السابعة ([8]): أن يتفكر في فائدة مخالفة  الهوى، من اكتساب الذكر الحميد في الدنيا وسلامة النفس والعرض، والأجر في الآخرة ثم يعكس، فيتفكر لو وافق هواه في حصول عكس ذلك.. ؟!، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾([9]) .

قال مقاتل: «هو الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها».

الوسيلة الثامنة: أن يعلم أن السعي المشكور عند الله لا يتحقق إلا بإرادة صادقة للآخرة، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾([10])، وإن من علامة صدق الإرادة السعي بإيمان وإخلاص.

الوسيلة التاسعة: أن يتذكر أن الإرادة والمجاهدة مطلوبة لفترات حدة الشهوة حتى تنقضي، فصبر ساعة يقي شر العمل كله، وإنه بهذه المجاهدة يُهدى إلى السبيل الأقوم قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾([11]).

الوسيلة العاشرة : الممارسة العملية للعبادات والأعمال الصالحة، فتأدية الصلاة بانتظام، والتزام الجماعات، ونوافل الصيام، وسائر العبادات هو مما تقوى به الإرادة وتزيد به صلابتها.

الوسيلة الحادية عشرة : صرف طاقة الهوى والحب إلى مواطنها الشرعية، واستبدال الحب المحرم للنساء وسائر الموبقات الخلقية إلى حب الله ورسوله، وحب الصحابة والتابعين والصالحين، وحب الوالدين والأبناء وحب الزوجة، وحب الأماكن المقدسة كالبيت الحرام وسائر المساجد، وحب الأعمال الصالحة، وكذلك إذا عرض للشاب شيئًا من فتنة العشق، فليتذكر أن هذا الهوى البائد قد يحرمه من الحب الخالد لحور العين في الجنة، فليتذكر الشاب المؤمن أن له محبوبته التي خلقت من أجله والتي جمالها يفوق كل جمال، وحسنها يفوق كل حسن، وهن ﴿  قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾([12]) المخلصات الوفيات لأزواجهن، وهن ﴿العُرب﴾ المتحببات لأزواجهن والمتشوقات للقياهم، وهن ﴿الأبكار﴾ دومًا لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان.

فأي عاقل يفرط لنزوة لحظات طائشة في هذا النعيم الخالد، واللذة الدائمة؟!

قال الإمام ابن تيمية في هذا المعنى: «فإذا كان المؤمن قد حبّب الله إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكرّه إليه الكفر والفسوق والعصيان حتى يعوض عن شهوات الغي بحب الله ورسوله، وما يتبع ذلك، وعن الشهوات والشبهات بالنور والهدى، وأعطاه الله من القوة والقدرة ما أيده، حيث دفع بالعلم الجهل، وبإرادة الحسنات إرادة السيئات، وبالقوة على الخير القوة على الشر في نفسه فقط» ([13]).

————————————————–

([1]) ذم الهوى، لابن الجوزي.

([2]) الشمس: 7 ــ 10 .

([3]) مختصر تفسير ابن كثير.

([4]) الكهف : 49 .

([5]) الأخلاق الإسلامية وأسسها، عبدالرحمن حبنكة .

([6]) للاستزادة حول هذا الموضوع يرجع إلى كتاب: «روضة المحبين ونزهة المشتاقين»، الباب التاسع والعشرون.

([7]) الأعراف : 176 .

([8]) هذه الوسائل من كتاب «ذم الهوى لابن الجوزي»، بشيء من الاختصار.

([9]) النازعات: 40، 41 .

([10]) الإسراء: 19 .

([11]) العنكبوت: 69 .

([12]) الصافات:48.

([13]) تفسير سورة النور، ابن تيمية.