أسباب الانحراف الخُلقي ومعوقـات الاسـتعفاف|غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره في الانحرافات الأخلاقية
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فرائض الإسلام قال تعالى : ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾([1]) .
وقال ﷺ : « والذي نفسي بيده لـتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشك الله أن يبعث عليكم عذابًا منه ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم»([2]).
قال النووي : « قد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهو أيضًا من النصيحة في الدين» ([3]) بل هي من ركائز المجتمعات قديمًا وحديثًا ، فكانت هي غاية جميع الرسالات السابقة قال تعالى: ﴿ لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾([4]) .
قال القرطبي : « إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانا واجبين في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة»؛ لذا فإن غياب هذه الفريضة عن حياة الأمة، أو ضعف القائمين بها، أو التضييق على الدعاة المصلحين، له آثار وخيمة على المجتمع.
فمــن هــذه الآثــار :
1 ــ ضياع الهوية الإيمانية للأمة :
قال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾([5]) . « فالأمر والنهي لا يكونان إلا حيث يكون إيمان، والأمة التي تسودها شَُعب الإيمان تهب إلى الأمر بها، والنهي عما يضادها، حرصًا على مميزات أخلاق الإيمان وأثرها في سعادة الإنسان، وفي قــوة الأمــة كلها، ومن هنا لا يوجد إيمان إلا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لازمًا لـه، وخاصة من خواصّه لا تنفك عنه»([6]).
فإذا غاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غاب الإيمان عن مسمى الأمة الإسلامية المرحومة فأصبحت عرضة لأهواء الشرق ومكائد الغرب. وهذا ما وقع في بني إسرائيل فقد روى عبدالله بن مسعود ﭬ عن رسول الله ﷺ أنه قال: « لّما وقع النقص في بني إسرائيل، كان الرجل منهم يرى أخاه يقع على الذنب، فينهاه عنه، فإذا كان الغد، لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن فقال: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ ([7]). وقرأ حتى بلغ: ﴿ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ ([8])، قال: وكان متكئًا فجلس، وقال: «لا، حتى تأخذوا على يد الظالم تأطروه على الحق أطرًا»([9]).
فهوية الأمة الإسلامية هي في دعوتها للحق الذي نشأت عليه وحمايته وصونــه، بل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غايات الجهاد في سبيل الله، وهذه بشــائر المصطفى ﷺ، فعن ابن مسعود قال: ســـمعت رسول ﷺ يقول: «إنكم منصورون ومصيبون ومفتوح لكم ، فمن أدرك ذلك منكم فليتق الله، وليأمر بالمعروف، ولينه عن المنكر، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النـار»([10]).
2 ــ ضياع الخيرية والمكانة بين الأمم :
قال تعالى: ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ﴾([11])، تلا عمر بن الخطاب ﭬ هذه الآية في حجّه فقال: «يا أيها الناس من سرّه أن يكون من تلك الأمة فليؤدِّ شرط الله منها». قال القرطبي: «﴿ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ﴾ مدحٌ لهذه الأمــة ما أقاموا ذلك وارتضوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم وكان ذلك سببًا لهلاكهم».
3 ــ استحقاق الهلاك والعقاب من الله:
قال أبو بكر الصديق ﭬ في خطبته : « يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية تضعونها على غير موضعها: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ ([12])، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه »([13]).
3 ــ انحلال المجتمع وتهدم كيانه:
فأساس بنيان المجتمع المسلم وغاية الجهاد لإقامته هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ﴾([14]) ، فمتى ما قوضت هذه القاعدة انقلبت معها قيم المجتمع وموازينه التي تُبنى عليها تصوراته ومنهاجه ، ويتم ذلك وفق درجاته:
* الدرجة الأولى : انتفاء الكره والبغض للمنكرات وهي درجة الإنكار بالقلب أدنى درجات الإيمان، قال تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِيقُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾ ([15]). وروى أبو داود عن عرس بن عميرة الكندي ﭬ قال: « إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها ــ وفي رواية ــ فأنكرها، كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها »([16]).
* الدرجة الثانية : إذا تمادى المجتمع في غفلته فسيتقبّل بعضها وسيسكت عنها إما جهلاً أو تخاذلاً، وهذه تكون سببًا لهلاك المجتمع، قال تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ(78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ ([17]).
* الدرجة الثالثة: إذا تمادى المجتمع في سكوته عن المنكر فسيتحول إلى أمر واقع، ومع الزمن سيظن عامة الناس أنها أعراف وعادات، وسيصعب عند ذلك تغييرها، بل وسيستغرب من الذي ينكرها، كما قال عمر بن عبدالعزيز ــ حين وُلِّـيَ الخلافة ــ عن واقع مجتمعه في ذلك الحين: «شاب عليه الصغير، وهرُم عليه الكبير، وظن الناس أنه هو الدين».
* الدرجة الرابعة: أن يصبح المنكر معروفًا فيتداعى إليه الناس ويتعارفون عليه ويرون فيه الخير وفي ضده ( المعروف الحقيقي) الشر – بل وكل الشر – ويعلو حينئذٍ شأن المفسدين، تعلو مكانتهم في المجتمع ويصبحون هم قادته وروّاده ومفكروه وفنانوه، ويُخفض صوت المصلحين وتنحط مكانتهم في المجتمع ويوصفون بالرجعية والتخلف والتطرف، ويصبحون في نظر المجتمع هم سبب شقاء الأمة، وهنا تنقلب الموازين وتضيع القيم، ويتهدم الكيان الحقيقي للمجتمع.
ذكر الأوزاعي رحمه الله : عن حسن بن عطية أن النبي ﷺ قال : «سيظهر شرار أمتي على خيارها ، حتى يستخفي المؤمن كما يستخفي المنافق فينا» ([18])([19]).
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب ﭬ قال : « توشك القرى أن تخرب وهي عامرة! قالوا: وكيف تخرب وهي عامرة؟! قال: إذا علا فجّارها على أبرارها وساد القبيلة منافقها»([20]).
وروى الـخَـلاّل عن سفيان قال: «إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر المؤمن، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق» ([21]).
لذلك فإن ما نراه من انتشار بعض المنكرات وشيوعها في المجتمع وقيامها كأسباب للانحراف ومهيجات للغرائز، ما هو إلا نتيجةًً لغياب تلك الفريضة.
([2]) أخرجه الترمذي (2169)، وأحمد (5/ 388)، عن حذيفة بن اليمان ﭬ، وقال الترمذي: «حسن»، ووافقه الألباني.
([3]) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جلال الدين العمري .
([6]) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عبد القادر أحمد عطا.
([9]) أخرجه الترمذي (3048)، وابن ماجه (4006)، عن عبدالله بن مسعود ﭬ، وضعفه الألباني.
([10]) أخرجه الترمذي (2257)، وأحمد (1/ 389)، عن عبد الله بن مسعود ﭬ،قال الترمذي: «حسن صحيح»، وصححه الألباني.
([13]) أخرجه ابن ماجه (4005)، وأحمد (1/2)، عن أبي بكر الصديق ﭬ، وهو عند أبي داود (4338)، والترمذي (2168، 3057) عن أبي بكر الصديق ﭬ،ولفظه: «إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب»، قال الترمذي: «صحيح».
([16]) أخرجه البخاري (4345)، عن العرس بن عميرة ﭬ ، وحسنه الألباني.
([18]) أثر الذنوب في هدم الأمم والشعوب، محمد محمود الصواف.
([19]) أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (238).
([20]) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص 45 .