مظاهر الانهزام أمام النفس
يقول ابن القيم في أسباب دخول النار: «دخل الناس النار من ثلاثة أبواب، باب شبهة أورثت شكًا في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديـم الـــهوى على طاعتــــه، وباب غضب أورث العدوان على خلقه، فمن مظاهر الانهزام الكفر والمعصية والبغي».
ويقول : «أصول الخطايا كلها ثلاثة: الكبر وهو الذي أصار إبليس إلى ما أصاره، والحرص وهو الذي أخرج آدم من الجنة، والحسد وهو الذي جرّأ أحد ابني آدم على أخيه، فمن وُقي شر هذه الثلاثة فقد وُقي الشر، فالكفر من الكبر، والمعاصي من الحرص، والبغي من الحسد»([1]).
ولا شك أن من أخطر مظاهر الانهزام أمام النفس هو الولوج في الفواحش والكبائر التي حرمها الله ــ تبارك وتعالى ــ كالزنى والشذوذ الجنسي ( اللواط والسحاق) ونكاح المحارم والاغتصاب، قال تعالى:﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾([2])، وقال ﷺ: « ملعون من عمل بعمل قوم لوط» ([3]).
ومن مظاهر الانهزام أمام النفس :
الأول : العشق والحب المحرم :
وهذا من الأدواء التي انتشرت في مجتمعاتنا، وأصبحت من أهم القضايا التي تروِّجُـها وسائل الإعلام، فلا يعرض فيلم إلا ويتحدث عن العشق والحب، ولا تُكتب رواية إلا عن الحب، ولا تطرح مشاكل وهموم إلا مشاكل العشاق وهمومهم وكأنها هي قضية الأمة الأولى والأخيرة.
إن سقوط الشاب أو الفتاة في شباك العشق لهو من أخطر الأمور، إذ الهوى من صفاته أنه يهوي بصاحبه، وإذا ما استحكم في القلب سيطر على العقل والفكر وألجم صاحبه فلا يفكر إلا في محبوبه، ولا يتكلم إلا فيه، ولا يقوم إلا بخدمتــه، ولا يحب إلا ما يحب وهنا يقع الإنسان في عبودية هواه قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ ([4]) .
وإذا فرغ القلب من حب الله ورسوله والجهاد في سبيله تمكن منه الهوى كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهـوى فصـادف قلبــا خاليا فتمـكَّـنَــا
مضار العشق :
لا شك أنه إذا كان هذا حال العشق فإن له آثارًا سيئة منها:
- الاشتغال بذكر المحبوب المخلوق عن حب الله تعالى وذكره، فمن المعلوم أنه لايجتمع مع حب الله تعالى حب غيره، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ ﴾([5])؛ لذا فإن العاشق لا يجد حلاوة الإيمان التي من شروطها: «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله»([6])، أما هو فقد وقع أسيرًا للحب من أول نظرة كما يقولون، وأصبح أسيرًا ( لمعبودته) كما يتسمون، فلايأمن العاشق أن يجره ذلك إلى الشرك كما جرّ ذلك الشاعر الخاسر حين قال:
وصلـك أشـهى إلى فــؤادي من رحمة الخالــق الجليــل
نعوذ بالله من هذا الخسران المبين.
- العذاب والحسرة والشقاء لتعلق قلبه بمعشوقته، وهذه من العقوبة الدنيوية قبل الأُخروية فمن أحب شيئًا غير الله عُذِّب به، وهذا ما استفاضت به الأخبار عن العشَّاق، وما جرى عليهم من أحوال المرض والغنى والجنون أحيانًا، والقتل أحيانًا أخرى) ([7]).
- الانشغال عن معالم الدين والدنيا.
- تجمع آفات الدنيا وفتنها في قلوب العشّاق، وهي أسرع إليهم من النار في يابس الحطب، فالقلب العاشق لغير الله محجوب عن مولاه؛ لذا فهو مرتع خصب للشيطان يتولاه كما يشاء.
- فساد الحواس، ذلك مصداقًا للحديث الذي قال فيه المصطفى ﷺ: « إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»([8])، فإن القلب إذا فسد فسدت العين والأذن واللسان فلا يرى الحسن إلا ما أشرب به هواه، بل يرى القبيح حسنًا.
هذه بعض مضار العشق والحب المحرم ، وسنتناول في الفصول الأخيرة الدواء النافع من ضمن منهج الاستعفاف ــ إن شاء الله.
——————–
([1]) إغاثة اللهفان، جـ1، لابن القيم.
([3]) أخرجه أحمد (1/ 217) عن ابن عباس ﭬ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5891).
([6]) أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43)، عن أنس بن مالك ﭬ .
([7]) يمكن الرجوع لكتاب ( ذم الهوى) لابن الجوزي للاستزادة.
([8]) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599)، عن النعمان بن بشير ﭭ.