النفس وأقسامها وتأثيرها على الغريزة الجنسية

يقول ابن القيم : «للنفس مكانةٌ خطيرةٌ لدى الإنسان المؤمن؛ لأنه يعلم أن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس، فالمواد الفاسدة كلها تنصب إليها ثم تنبعث منها إلى الأعضاء وأولها القلب، والنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يدعو عبده إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى والقلب بين ذلك..» ([1]).

﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ(40) عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ ([2]) .

وكان الرسول ﷺ يقول في خطبة الحاجــة : « الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ باللــه من شرور أنفسنا وســـيئات أعمالهـا..»، فاستعاذ ﷺ من شرها عمومًا ومن شر ما يتولد منها من الأعمال، ومن شر ما يترتب على ذلك من المكائد والعقوبات، وجمع بينها وبين سيئات الأعمال.

وفي حديث حصين بن عبيد قال له الرسول ﷺ:« يا حصين كم تعبد؟»، قال: «سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء»، قال: «فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟»، قال: «الذي في السماء»، قال: «أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها»، فقال: قل: «اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي» ([3])، وقال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ([4]).

ومن الدعاء الـمأثـــور: «رب آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها».

وسُئِلت أم المؤمنين عائشة عن قول الله عزوجل  ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ ([5])، فقالت: «يا بني، هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله ﷺ وشهد له رسول الله ﷺ بالجنة والرزق، وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم فمثلي ومثلكم»، قال الراوي: «فجعلت نفسها معنا».

وقال أبو حفص: «من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرّها إلى مكروهها في سائر أوقاتها كان مغرورًا، ومن نظر باستحسان شيء منها فقد أهلكها»([6]).

ولذلك وجب على المسلم أن يطهر هذه النفس ويزكيها، وينقّيها بالرغبة والرهبة، والمجاهدة والتأديب، فتكون مبعث كل خير، قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)قَدْ أَفْلَحَ مَنزَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾([7]).

وبغير هذا التأنيب والتهذيب سيكون المؤمن مقودًا من نفسه وهواها بعد أن كان قائدًا، وذليلاً من انتصارها عليه بعد أن كان عزيزًا بطاعة الله، وضعيفًا أمامها بعد أن كان قويًا بقوة إرادته وإيمانه.

قال ابن الجوزي رحمه الله  :«بالله عليك يا مرفوع القدر بالتقوى لا تبع عزها بذل المعاصي، وصابر عَطَشَ الهوى في هجير المشتهى وإن أمْضَى وَأرْمَضَ»، أي: آلم وأحرق.

وقيل في النفس :

هي النفس إن أنت سامحتـــها              رمـتْ بك في مهاوي الخديعـــه

فــلا تَـــعْــــبَـــأنّ بـميــعـــادِهَــا             فمـيعَـــادُهَــا كســــرابٍ بقيعَـــه

والنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يدعو عبده إلى مخافته ونهي النفس عن هواها، والقلب سيكون بين الداعيين، إلى هذا مرة وإلى ذلك مرة، ولذلك وصفها الله سبحانه وتعالى في القرآن بثلاث صفات: المطمئنة، والأمارة بالسوء، واللوامة، وهي قد تكون واحدة تتعدد حالاتها وصفاتها، وهذا شرح لتلك الصفات:

الأولى : المطمئنة :

هي التي سكنت إلى الله واطمأنت بذكره، وأنابت واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه، وهي التي يقال لها عند الوفاة: ﴿يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾([8]) .

قال ابن عباس: الـمُصَدِّقَـة، وقال قتادة: هو المؤمن اطمأنّت نفسه إلى ما وعد الله، قال الحسن: المطمئنة بما قال الله والمصدقة بما قال، قال مجاهد: هي المنيبة المخبتة التي أيقنت أن الله ربها وضربت جأشًا لأمره وطاعته، وأيقنت بلقائه.

وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار، فهي التي سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره ولم تسكن إلى سواه، فقد اطمأنّت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته، واطمأنت إلى الرضى به ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد ﷺ رسولاً، واطمأنت إلى أنه وحده ربها وإلـهها ومعبودها وأن مرجعها إليه، وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين، وهذه النفس تكون بما أوتيت من قوة إيمان قادرة بعون الله لها على قهر الهوى وتَزْيينِ الشيطان إن تعرّض لها.

قال ابن الجوزي رحمه الله: «وفي قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة، ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلاً لأنه قُهر، بخلاف غالب الهوى فإنه يكون قويًا لأنه قَهر».

الثانية : الأمارة بالسوء :

وهذه ضد السابقة، تأمر صاحبها بما تهواه من شهوات الجسد واتباع الباطل، فهي مأوى كل سوء، وإلى كل قبيح وكل مكروه تقود من أطاعها، وهي (أمّارة) وليست (آمرة) لكثرة ذلك منها، وهي خلقت بالأصل جاهلة ظالمة إلا من رحمه الله ، والعدل والعلم طارئ بإلهامٍ وهدى من ربها، فإذا لم يُلْهمْها بقيت على ظلمها وجهلها، ولولا فضل الله ما زكى من المؤمنين أحدٌ، فإذا أراد الله ــ سبحانه ــ بها خيرًا جعل منها ما تزكو به وتصلح من الإرادات والتصورات، ومن ذلك يعلم العبد أن حاجته لربه أقوى من كل حاجة، فإن أمسك رحمته وهدايته عنه طرفة عين خسر وهلك، وهذه النفس تشد الإنسان شداّ إلى الشهوات وتزيّنها في نفسه، ولاتزال به حتى يأتي ما حرَّم الله من المعاصي وقبائح الأعمال.

الثالثة: اللوامـــة :

وقد اختُـلِف فيها: هل هي المترددة أو التي تلوم صاحبها؟

قال سعيد بن جبير لابن عباس: ما اللوامة؟ قال: هي النفس اللؤوم.

قال مجاهد: هي التي تندم على ما فات وتلوم عليه.

وقال قتادة: هي الفاجرة.

وقال الحسن :  إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته يستقصرها في كل ما يفعل فيندم ويلوم نفسه، وإن الفاجر لَيَمضي قُدُمًا لا يعاتب نفسه.

وقال ابن عباس: كل نفس تلوم نفسها يوم القيامة، يلوم الـمُحسن نفسه أن لايكون ازداد إحسانًا، ويلوم المسيء نفسه ألا يكون رجع عن إساءته.

وهذا أرجح من القول الأول بأنها المترددة، فهي نفس ذلك المؤمن الذي تراه يسأل نفسه بعد كل عمل يحاسبها عليه إن كان إثمًا أو معصية: لم فعلت ذلك ؟ ولم تجرأت على الله؟ كيف نسيت الله ولم تَسْتحِ منه؟

وقال الحسن عن العبد : لا يزال بخير ما كان له واعظٌ من نفسه وكانت المحاسبة من همته.

([1]) إغاثة اللهفان، جـ1، لابن القيم.

([2]) النازعات : 37 ــ 41 .

([3]) أخرجه الترمذي (3483)، وضعفه الألباني.

([4]) آل عمران: 26 .

([5]) فاطر : 32 .

([6]) إغاثة اللهفان، جـ1، لابن القيم.

([7]) الشمس : 7 ــ 10 .

([8]) الفجر : 27، 28 .