قصة المحب العفيف
ذكر الأستاذ محمود النجيري في كتاب «بانتظار حورية من الجنة» هذه الرواية: حدّثني بعــض إخواني قال: نشأنا سويًا منذ نعومة أظفارنا، فقد جمع عائلتينا علائــق الود والصفاء، وكنت أنا أرتع معها في براءة الطفولة، وأشاركها لعبها ولهوها الغض. ودارت بنا الأيام على تلك الحال، حتى انسلخنا من عهد الطفولة الرخي وبدأنا ندخل عهدًا جديدًا في ألوانه وإحساساته ومشاهده.
بدأت هي تظهر عليها ملامح الأنوثة الفياضة، وأنا أدخل طور الشباب، وطبيعة الحال فقد حجبها أهلها ولم يعد ير أحدنا الآخر إلا لـمامًـا.
وافتقدتها كرفيقة اعتدت صحبتها دومًا، وظننت أني لا آبه لفراقها، إلا أنني لمست في نفسي ميلاً جارفًا نحوها وحبًا عارمًا لشخصها، كيف وقد درجنا سويًا، ونمت عواطفنا مع نماء أجسادنا، كنت أعلم يقينًا أنها تحبني أيضًا، لكنني عففت، وحفظني عقلي فسكت، وتوجهت إلى ربي بكل كياني ونفسي، أرعى حرمه، والتزم حدوده، وأنتهج شرعه، وعزمت في نفسي أن أتزوجها حينما يتيسر الأمر.
والحق أنني جاهدت نفسي جهادًا طويلاً حتى أقمع ذلك الشوق الجارف إليها وألطف الحنوّ العظيم نحوها، وربط الله علي قلبي وألهمني الصبر.
وعفَّ في الحُبِّ ولا تبـده واصــبر وكاتم غاية الجهد
فإن تمت محتسبًا صــابــرًا فـز غــدًا في جنـــة الخلــد
وذات يوم وبينما أنا في بيتي وليس فيه غيري، إذ دخلت عليَّ هي بجمالها وبهائها، بجلالها وعنفوانها، واتجهت صوبي باسطة كفها، وتخطف بصري جمالها الأخّاذ وسحرها الفتَّان، وهممت بمصافحتها والإقبال عليها، لكنني تذكرت أن هذا ليس من حقي، فغضضت من طرفي، وجمَّدت يدي وأدرت لها عطفي وقلت: «ليس أحد بالمنزل، أو ما تعلمين ذلك؟»، فأجابت في صوت متهدج متقطع: «بلى، أعلم ذلك جيدًا. ولذا أتيت، إنك لا تدري ما أصابني بعدك… إنني…إنني »، وانقطع كلامها ببوادر بكاء. ووقفت جامدًا لا أدري ما أقول وما أفعل، وظللت للحظة أدافع نفسي عن أشياء كثيرة أرادتها، لقد كانت هذه الخلوة وضعًا خاطئًا، ثم إن الشيطان قد بدأ ينسج خيوطه، ويوري ناره، يجب ألا أهن منذ البداية وأن أقطع دابر الغواية، فترفقت وقلت لها: «لا أحد بالمنزل هل تفهمين؟.. لا أحد بالمنزل..».
كنت أعلم أن كلامي سيكون وقعه شديدًا جدًا عليها، ولكن لا مخرج إلا بذلك، وصح ظني فقد استدارت محنـقـة وخرجت، فحمدت الله وتمثلت قول الشاعر:
واســــــوأتا لـفــتــــــىً لـــــــــه أدب يضحــي هــــــواه قاهــــــرًا أدبـــــــــــه
يأتــي الدنـــيّـة وهـو يعرفهــا فيـشين عرضـــــًا صائنـــًا أربـــــــــه
فإذا ارعوى عادت بصيرته فبكى على الحين الذي سلبه